كناية عما جعل الله في سجيته من الدلائل المفضية إلى الوحدانية وإلى شريعة الإسلام؟ فجعلت الدلالة قولا على سبيل المجاز ، وإذا حمل على القول حقيقة ، فاختلفوا متى قيل له ذلك. فالأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوّة ، وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها ، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية ، وأمارات الحدوث ، فلما عرف ربه ، قال تعالى له أسلم. وقيل : كان بعد النبوّة ، فتؤول الأمر بالإسلام على أنه أمر بالثبات والديمومة ، إذ هو متحل به وقت الأمر ، ويكون الإسلام هنا على بابه ، والمعنى : على شريعة الإسلام. وقيل : الإسلام هنا غير المعروف ، وأول على وجوه ، فقال عطاء : معناه سلم نفسك. وقال الكلبي وابن كيسان : أخلص دينك. وقيل : اخشع واخضع لله. وقيل : اعمل بالجوارح ، لأن الإيمان هو صفة القلب ، والإسلام هو صفة الجوارح ، فلما كان مؤمنا بقلبه كلفه بعد عمل الجوارح ، وفي قوله : أسلم ، تقدير محذوف ، أي أسلم لربك. وأجاب بأنه أسلم لرب العالمين ، فتضمن أنه أسلم لربه ، لأنه فرد من أفراد العموم ، وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص ، لذلك عدل عن أن يقول : أسلمت لربي ، ومن كان ربا للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة ابتداء قصص إبراهيم عليهالسلام. فذكر أولا ابتلاءه بالكلمات ، وإتمامه إياهن ، واستحقاقه الإمامة بذلك على الناس كلهم في زمانه ، وسؤال إبراهيم الإمامة لذريته شفقة عليهم ومحبة منه لهم ، وإيثارا أن يكون في ذريته من يخلفه في الإمامة ، وإجابة الله له بأن عهده لا يناله ظالم ، وفي طيه أن من كان عادلا قد ينال ذلك. وكان في ابتداء قصص إبراهيم بنيه وذريته من بني إسرائيل وغيرهم ، على فضيلته وخصوصيته عند الله تعالى ، ليكون ذلك حاملا لهم على اتباعه ، فإنه إذا كان للشخص والد متصف بصفات الكمال ، أوشك ولده أن يتبعه وأن يسلك منهجه ، لما في الطبع من اتباع الآباء والاقتفاء لآثارهم ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١)؟.
ثم ذكر تعالى شرف البيت الحرام ، وجعله مقصدا للناس يؤمون إليه ، وملجأ يأمنون فيه ، وأمره تعالى للناس بالاتخاذ من مقام إبراهيم مصلى ، فحصل لهم الاقتداء بأن جعل مقامه مكان عبادة ومحل إجابة. ثم ذكر عهده لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت ، حيث صار
__________________
(١) سورة الزخرف : ٤٣ / ٢٣.