على الابتداء ، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم ، فعند البصريين هو على إضمار القول ، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوصية في معنى القول ، فكأنه قال : قال إبراهيم لبنيه يا بني ، ونحوه قول الراجز :
رجلان من ضبة أخبرانا |
|
إنا رأينا رجلا عريانا |
بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو معمولا لا خبرانا على المذهبين ، وفي النداء لمن بحضرة المنادي. وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز ، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله ، ولذلك صدر كلامه بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ، وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل. وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك : أن يا بني ، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير ، لأن جعلها هنا زائدة ، وهم الكوفيون. (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) ، أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان. والألف واللام في الدين للعهد ، لأنهم كانوا قد عرفوه ، وهو دين الإسلام.
(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : هذا استثناء من الأحوال ، أي إلا على هذه الحالة ، والمعنى : الثبوت على الإسلام ، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام. إلا أن ذلك نهي عن الموت ، ونظير ذلك في الأمر. مت وأنت شهيد ، لا يكون أمرا بالموت ، بل أمر بالشهادة ، فكأنه قال : لتستشهد في سبيل الله ، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة. وقد تضمن هذا الكلام إيجازا بليغا ووعظا وتذكيرا ، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه. فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها ، كان متذكرا للموت دائما ، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائما. وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سببا للموافاة على غير الإسلام ، ونظير ذلك قولهم : لا أرينك هاهنا ، لا ينهى نفسه عن الرؤية ، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان ، فيكون يراه ، فكأنه قال : اذهب عن هذا المكان. ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان ، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة ، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه.
وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف ، منها : الوصية ، ولا تكون إلا عند خوف