مبالغة في الشقاق الحاصل لهم بالتولي ، وهذا كقوله : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) ، (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) (٢) ، هو أبلغ من قولك : زيد مشاق لعمرو ، وزيد ضال ، وبكر سفيه. والشقاق هنا : الخلاف ، قاله ابن عباس ، أو العداوة ، أو الفراق ، أو المنازعة ، قاله زيد بن أسلم ، أو المجادلة ، أو الضلال والاختلاف ، أو خلع الطاعة ، قاله الكسائي ؛ أو البعاد والفراق إلى يوم القيامة. وهذه تفاسير للشقاق متقاربة المعنى. وقد ذكرنا مدار ذلك في المفردات على معنيين : إما من المشقة ، وإما أن يصير في شق وصاحبه في شق ، أي يقع بينهم خلاف. قال القاضي : ولا يكاد يقال في العداوة على وجه الحق شقاق ، لأن الشقاق في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ، وهذا وعيد لهم. انتهى.
(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) : لما ذكر أن توليهم يترتب عليه الشقاق ، وهو العداوة العظيمة ، أخبر تعالى أن تلك العداوة لا يصلون إليك بشيء منها ، لأنه تعالى قد كفاه شرهم. وهذا الإخبار ضمان من الله لرسوله ، كفايته ومنعه منهم ، ويضمن ذلك إظهاره على أعدائه ، وغلبته إياهم ، لأن من كان مشاقا لك غاية الشقاق هو مجتهد في أذاك ، إذا لم يتوصل إلى ذلك ، فإنما ذلك لظهورك عليه وقوّة منعتك منه ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٣). وكفاه الله أمرهم بالسبي والقتل في قريظة وبني قينقاع ، والنفي في بني النضير ، والجزية في نصارى نجران. وعطف الجملة بالفاء مشعر بتعقب الكفاية عقيب شقاقهم ، والمجيء بالسين يدل على قرب الاستقبال ، إذ السين في وضعها أقرب في التنفيس من سوف ، والذوات ليست المكفية ، فهو على حذف مضاف ، أي فسيكفيك شقاقهم ، والمكفي به محذوف ، أي بمن يهديه الله من المؤمنين ، أو بتفريق كلمة المشاقين ، أو بإهلاك أعيانهم وإذلال باقيهم بالسبي والنفي والجزية ، كما بيناه.
(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، مناسبة هاتين الصفتين : أن كلا من الإيمان وضدّه مشتمل على أقوال وأفعال ، وعلى عقائد ينشأ عنها تلك الأقوال والأفعال ، فناسب أن يختتم ذلك بهما ، أي وهو السميع لأقوالكم ، العليم بنياتكم واعتقادكم. ولما كانت الأقوال هي الظاهرة لنا الدالة على ما في الباطن ، قدّمت صفة السميع على العليم ، ولأن العليم فاصلة أيضا. وتضمنت هاتان الصفتان الوعيد ، لأن المعنى ، وهو السميع العليم ، فيجازيكم بما يصدر منكم.
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ٦٠.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٦٦.
(٣) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.