وقرأ الجمهور : صبغة الله بالنصب ، ومن قرأ برفع ملة ، قرأ برفع صبغة ، قاله الطبري. وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب ، فوجه على أوجه ، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ). وقيل : عن قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). وقيل : عن قوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) وقيل : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا صبغة الله. وقيل : بدل من قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) ، إلا إن قدر هناك قول ، وهو إضمار ، لا حاجة تدعو إليه ، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل ، فهو بعيد ، وقد طال بين المبدل منه والبدل بجمل ، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصبا انتصاب المصدر المؤكد عن قوله : (قُولُوا آمَنَّا) ، فإن كان الأمر للمؤمنين ، كان المعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة ، ولم يصبغ صبغتكم. وإن كان الأمر لليهود والنصارى ، فالمعنى : صبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا ، وطهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيرنا. ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) ، إذ قبله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٢) ، معناه : صنع الله ذلك صنعه ، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة ، كما تقول لرجل يغرس الأشجار : اغرس كما يغرس فلان ، يريد رجلا يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع ، فذلك خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك الإيمان صبغة الله.
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) : هذا استفهام ومعناه : النفي ، أي ولا أحد أحسن من الله صبغة. وأحسن هنا لا يراد بها حقيقة التفضيل ، إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن ، أو يراد التفضيل ، باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسنا ، لا أن ذلك بالنسبة إلى حقيقة الشيء. وانتصاب صبغة هنا على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب ، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزا نقل من المبتدأ ، والتقدير : ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين ، لا بين الصابغين.
(وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) : متصل بقوله : (آمَنَّا بِاللهِ) ، ومعطوف عليه. قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة ، أو نصب على الإغراء ، بمعنى : عليكم صبغة الله ، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه
__________________
(١) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.
(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٨٨.