الرؤية من السماء لإعظام تقلب وجهه ، لأن السماء مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ، ويكون كما جاء : بأن الله يسمع من فوق سبعة أرقعة ، والظاهر الأول ، وهو تعلق المجرور بالمصدر ، وأن في على حقيقتها. واختص التقلب بالسماء ، لأن السماء جهة تعود منها الرحمة ، كالمطر والأنوار والوحي ، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم ، ولأن السماء قبلة الدعاء ، ولأنه كان ينتظر جبريل ، وكان ينزل من السماء.
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) : هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة ، التقدير : قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه ، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها. وجاء الوعد قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ، ثم بإنجاز الوعد ، فيتوالى السرور مرتين ، ولأن بلوغ المطلوب بعد الوعد به أنس في التوصل من مفاجأة وقوع المطلوب. ونكر القبلة ، لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة ، فتعرف بالألف واللام. وليس في اللفظ ما يدل على أنه كان يطلب باللفظ قبلة معينة ، ووصفها بأنها مرضية له لتقربها من التعيين ، لأن متعلق الرضا هو القلب ، وهو كان يؤثر أن تكون الكعبة ، وإن كان لا يصرّح بذلك. قالوا : ورضاه لها ، إما لميل السجية ، أو لاشتمالها على مصالح الدين. والمعنى : لنجعلنك تلي استقبال قبلة مرضية لك ، ولنمكننك من ذلك.
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. وبهذا الأمر نسخ التوجه إلى بيت المقدس. قالوا : وإنما لم يذكر في الصلاة ، لأن الآية نزلت وهو في الصلاة ، فأغنى التلبس بالصلاة عن ذكرها. ومن قال نزلت في غير الصلاة ، فأغنى عن ذكر الصلاة أن المطلوب لم يكن إلا ذلك ، أعني : التوجه في الصلاة. وأقول : في قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) ما يدل على أن المقصود هو في الصلاة ، لأن القبلة هي التي يتوجه إليها في الصلاة. وأراد بالوجه : جملة البدن ، لأن الواجب استقبالها بجملة البدن. وكنى بالوجه عن الجملة ، لأنه أشرف الأعضاء ، وبه يتميز بعض الناس عن بعض. وقد يطلق ويراد به نفس الشيء ، ولأن المقابلة تقتضي ذلك ، وهو أنه قابل قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ). وتقدّم أن الشطر يطلق ويراد به النصف ، ويطلق ويراد به النحو. وأكثر المفسرين على أن المراد بالشطر تلقاؤه وجانبه ، وهو اختيار الشافعي. وقال الجبائي ، وهو اختيار القاضي : المراد منه وسط المسجد ومنتصفه ، لأن الشطر هو النصف ، والكعبة بقعة في وسط المسجد. والواجب هو التوجه إلى الكعبة ، وهي