وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للاحوال ، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على تعميم مواضع الإتيان ، فتكون بمعنى : أين وقال. الزمخشري وقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل ، أي فأتوهنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها ، من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة ، والمعنى : جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا ، وهو موضع الحرث.
وقوله : (هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) من الكنايات اللطيفة ، والتعرضات المستحسنة ، فهذه وأشباهها في كلام لله تعالى آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها ، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه. وهو حسن.
قالوا والعامل في : أنّى فأتوا ، وهذا الذي قالوه لا يصح ، لأنا قد ذكرنا أنها تكون استفهاما أو شرطا ، لا جائز أن تكون هنا شرطا ، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان ، فيكون ذلك مبيحا لإتيان النساء في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله ، لأنه معمول لفعل الشرط ، كما أن فعل الشرط معمول له ، ولا جائز أن يكون استفهاما ، لأنها إذا كانت استفهاما اكتفت بما بعدها من فعل كقوله (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) (١) ومن اسم كقوله : (أَنَّى لَكِ هذا) (٢) ولا يفتقر إلى غير ذلك ، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها.
وعلى تقدير أن يكون استفهاما لا يعمل فيها ما قبلها ، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها ، فتبين على وجهي : أنّى ، أنها لا تكون معمولة لما قبلها ، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر.
والذي يظهر ، والله أعلم ، أنها تكون شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها ، وتكون قد جعلت فيها الأحوال. كجعل الظروف المكانية ، وأجريت مجراها تشبيها للحال بالظرف المكاني ، وقد جاء نظير ذلك في لفظ : كيف ، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم : كيف تكون أكون ، وقال تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٧.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٧.