ويجوز عندي أن يكون قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) حكاية لتفكّرهم في نفوسهم ، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه ، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني ، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلا ، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار ، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعا وعاصيا ، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثوابا وعقابا ، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب. وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسألوا غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والموت على البر إلى آخره ... فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها ، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم ، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعا بين المسلمين بمعانيه وألفاظه.
ومعنى (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أي خلقا باطلا ، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل ، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات ، كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [الدخان : ٣٨] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة ، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا.
وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لأنّه ترتّب على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّا مناسبا فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار.
وقولهم : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار ، كما تؤذن به (إنّ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا. والخزي مصدر خزي يخزى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس ، وأخزاه أذلّه على رءوس الأشهاد ، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم : (عَذابَ النَّارِ) أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذّب وإهانة علنية ، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس ، ومنه قول إبراهيم عليهالسلام : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [بالشعراء : ٨٧] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء ، أي من يدخل النار فقد أخزيته. والخزي لا تطيقه الأنفس ، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقد أخزيته