يستدعي الإحسان وطيب المعاشرة ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذا كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام ، فبيّن الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين. وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له.
وحدثت قضية أو قضيتان دعتا إلى تفصيل هذا الحكم.
روي أن سعد بن أبي وقاص حين أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان يا سعد بلغني أنك صبأت ، فو الله لا يظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد ، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فشكا سعد ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت هذه الآية فأمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.
وروي أنه لما أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع عمر بن الخطاب إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج أبو جهل وأخوه الحارث وكانا أخوي عياش لأمه فنزلا بعياش وقالا له : إن محمدا يأمر ببر الوالدين وقد تركت أمك وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبّا لك منها لنا ، فاخرج معنا. فاستشار عمر فقال عمر : هما يخدعانك ، فلم يزالا به حتى عصى نصيحة عمر وخرج معهما. فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي كلت فاحملني معك. قال عياش : نعم ، ونزل ليوطئ لنفسه ولأبي جهل. فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه فقالت له : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد وأوثقته عندها ، فقيل : إن هذه الآية نزلت في شأنهما.
والمقصود من الآية هو قوله (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) إلى آخره ، وإنما افتتحت ب (وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه لقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (١). ولقصد تقرير حكم الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك لإبطال قول أبي جهل : أليس من دين محمد البر بالوالدين ونحوه.
__________________
(١) رواه أحمد والحاكم بهذا اللفظ. ومعناه ثابت في «الصحيحين» بلفظ أطول.