وكلّ موجود فله هذه المراتب ولا يخلو عن حكمها ، وعلى هذه المراتب الثلاث تنقسم أحكام الرحمة في السعداء والأشقياء ، والمتنعّمين بنفوسهم دون أبدانهم ، كالأرواح المجرّدة وبالعكس ، والجامعين بين الأمرين والسعداء في الجنّة أيضا من حيث نفوسهم بعلومهم دون صورهم ؛ لكونهم لم يقدّموا في جنّة الأعمال ما يستوجبون به النعيم الصوري ، وإن كان ، فنزر يسير بالنسبة إلى سواهم ، وعكس ذلك كالزهّاد والعبّاد الذين لا علم لهم بالله ، فإنّ أرواحهم قليلة الحظّ من النعيم الروحاني ، لعدم المناسبة بينهم وبين الحضرات الإلهيّة العلميّة ، ولهذا ـ أي لعدم المناسبة ـ لم يتعلّق هممهم زمان العمل بما وراء العمل وثمرته ، بل ظنّوه الغاية ، فوقفوا عنده واقتصروا عليه ، رغبة فيما وعدوا به أو رهبة ممّا حذّروا منه.
وأمّا الجامعون بين النعيمين تماما فهم الفائزون بالحظّ الكامل في العلم والعمل كالرسل ـ صلوات الله عليهم ـ ومن كملت وراثته منهم أعني الكمّل من الأولياء.
ولمّا كانت الرحمة عين الوجود ، والوجود هو النور ، والحكم العدميّ له الظلمة ، كما نبّهتك عليه ، كان كلّ من ظهر فيه حكم النور (١) أتمّ وأشمل ، فهو أحقّ العباد نسبة إلى الحقّ وأكمل ، ولهذا سأل رسول الله صلىاللهعليهوآله ربّه أن ينوّر ظاهره ، وعدّد الأعضاء الظاهرة كالشعر والجلد واللحم وغير ذلك ، ثمّ عدّد القوى الباطنة كالقلب والسمع والبصر ، فلمّا فرغ من التفصيل ، نطق بلسان أحديّة جمعه ، فقال : «اجعل لي نورا واجعلني نورا» (٢). وهذا هو عموم حكم الرحمة ظاهرا وباطنا ، وإجمالا وتفصيلا من جميع الوجوه.
وصاحب هذا المقام لا يبقى فيه من الحكم الإمكاني الذي له وجه إلى العدم إلّا نسبة واحدة من وجه واحد ، بها تثبت عبوديّته ، وبها يمتاز عمّن هو على صورته ، وتذكّر تعريف الحقّ سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآله بأنّه أرسل رحمة للعالمين ، وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وتضرّع إلى الله في أن ترث من هذا السيد الأكمل هذا المقام الأشرف الأفضل ، وصاحبه هو الإنسان الكامل ، والحال المذكور هو من أكبر (٣) أجزاء حدّ الكمال ، ومن أتمّ الأوصاف المختصّة به ،
__________________
(١) ق : النور فيه.
(٢) ر. ك : معجم مستدرك الوسائل ، ج ٥ ، ص ٧٨.
(٣) ب : الأكمل.