والتكليف نسبة لا تتعقّل إلّا بين مكلّف قادر قاهر عليم ، وبين مكلّف له صلاحيّة أن يكون محلّا لنفوذ اقتدار المكلّف ، وقابلا حكم تكليفه.
ولمّا علمنا بالله ـ أو قل ـ بما نوّر به سبحانه عقولنا وبصائرنا أنّ له تعالى الكمال المطلق الأتمّ ، بل هو ينبوع كلّ كمال ، ثم عرّفنا بواسطة نبيّه صلىاللهعليهوآله حين قال له في كتابه العزيز (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (١) تحقّقنا بما نوّر أوّلا وبما أخبر ثانيا أنّ الأحكام والأفعال الصادرة منه سبحانه تصدر منصبغة بالوصف الكمالي ، فليس منها حكم ولا فعل إلّا وهو كامل ، مشتمل على فوائد وأسرار وحكم شتّى ، لا يحيط بها علم أحد سواه ، وإنّما غاية الخلق وقصاراهم أن يعرفوا اليسير منها بوهب منه سبحانه أيضا ، لا بتسلّط كسبي ، ولا على سبيل الإحاطة بذلك اليسير.
لكن مع هذا لا نشكّ أنّ أفعاله وإن كانت من حيث صدورها منه ونسبتها إليه ـ كما قلنا ـ خيرا محضا ، وكمالا صرفا ، فإنّها متفاوتة في نفسها بحسب مراتب الأسماء والصفات والمواطن والحضرات ، فبعض تلك الأفعال يكون لما ذكرنا أعظم جدوى من البعض ، وأجلّ قدرا ، وأتمّ إحاطة ، وأشمل حكما ، وأكثر استيعابا للحكم والأسرار.
والحكم التكليفي من أجلّ الأفعال والأحكام وأتمّها حيطة ، وأشملها حكما ؛ فإنّه عنوان العبوديّة المنسحبة الحكم على كلّ شيء بسوط (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٢) وقوله (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٤) ولا شكّ أنّ كلّ مسبّح لله مقرّ بعبوديّته له ، بل نفس تسبيحه بحمده إقرار منه بالعبوديّة لله تعالى إقرار علم ، كما أخبر سبحانه بقوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٥).
فكلّ ما يطلق عليه اسم «شيء» فهو داخل في حيطة هذا الحكم والإخبار الإلهي. وقد أسلفنا من قبل أنّ لكلّ حقيقة أو صفة تنضاف إلى الكون بطريق الخصوصيّة التي هي من خصائص الممكنات ، أو بطريق الاشتراك ، بمعنى أنّه تصحّ نسبتها إلى الحقّ من وجه وباعتبار ، وإلى الكون أيضا كذلك فإنّ لها ـ أي لتلك الحقيقة ـ أصلا في الجناب الإلهي ، إلى
__________________
(١) الإسراء (١٧) الآية ٨٤.
(٢) مريم (١٩) الآية ٩٣.
(٣) الزمر (٣٩) الآية ٦٢.
(٤) الإسراء (١٧) الآية ٤٤.
(٥) النور (٢٤) الآية ٤١.