وصحّ للأكابر من بركات مباشرة الأخلاق والأعمال المشروعة ما صحّ ونبّهت على ذلك الإشارات الربانيّة ، كقوله في مدح نبيّه صلىاللهعليهوآله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ، (١) وكقوله في مدح آخرين في باب الكرم : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) ، (٢) وكوصيّته سبحانه لنبيّه أيضا بقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٣) ، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، (٤) فحرّضه على السلوك على الأمر الوسط بين البخل والإسراف ، وكجوابه لمن سأله مستشيرا في الترهّب وصيام الدهر وقيام الليل كلّه بعد زجره إيّاه ، (٥) «ألا إنّ لنفسك عليك حقّا ، ولزوجك عليك حقّا ، لزورك عليك حقّا ، فصم وأفطر وقم ونم». ثم قال لآخرين في هذا الباب : «أمّا أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» (٦) فنهى عن تغليب القوى الروحانيّة على القوى الطبيعيّة بالكلّيّة ، كما نهى عن الانهماك في الشهوات الطبيعيّة.
وهكذا فعل في الأحوال وغيرها ، فمن ذلك لمّا رأى عمر رضي الله عنه وهو يقرأ رافعا صوته ، فسأله عن ذلك ، فقال : أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال له : «اخفض من صوتك قليلا» وأتى أبا بكر رضي الله عنه فوجده يقرأ أيضا خافضا صوته ، فسأله كذلك ، فقال : «قد أسمعت من ناجيت» فقال له : «ارفع من صوتك قليلا» ؛ فأمرهما صلىاللهعليهوآله بلزوم الاعتدال الذي هو صفة الصراط المستقيم وهكذا الأمر في باقي الأخلاق ؛ فإنّ الشجاعة صفة متوسّطة بين التهوّر والجبن ، والبلاغة صفة متوسّطة بين الإيجاز والاختصار المجحف ، وبين الإطناب المفرط ، وشريعتنا قد تكفّلت ببيان ذلك كلّه وراعته وعيّنت الميزان الاعتدالي في كلّ حال وحكم ومقام وترغيب وترهيب ، وفي الصفات والأحوال الطبيعيّة ، والروحانيّة والأخلاق المحمودة والمذمومة ، حتى أنّه عيّن للمذمومة مصارف إذا استعملت فيها كانت محمودة وراعى هذا المعنى أيضا في الإخبارات الإلهيّة والإنباء عن الحقائق ؛ فإنّه سلك في ذلك
__________________
(١) النجم (٥٣) الآية ١٧.
(٢) الفرقان (٢٥) الآية ٦٧.
(٣) الإسراء (١٧) الآية ١١٠.
(٤) الإسراء (١٧) الآية ٢٩.
(٥) روح الأرواح ، ص ٦٧٧.
(٦) ق ، ه : أمر ثالث.