فتركيب الأقيسة والمقدّمات طريق تصل بها (١) نفس الطالب بنظره الفكري إلى معرفة ما يقصد إدراكه من الحقائق ، فقد تصل إليه بعد تعدّي مراتب صفاته وخواصّه ولوازمه تعدّيا علميّا ، وقد لا يقدّر له ذلك ، إمّا لضعف (٢) قوّة نظره وقصور إدراكه ـ المشار إلى سرّه فيما بعد ـ أو لموانع أخر يعلمها الحقّ ومن شاء من عباده ، أوضحها إقامة كلّ طائفة في مرتبة معيّنة لتعمر المراتب بأربابها لينتظم شمل مرتبة الألوهيّة ، كما قيل ، :
على حسب الأسماء تجري أمورهم |
|
وحكمة وصف الذات للحكم أجرت. |
وغاية مثل هذا أن يتعدّى من معرفة خاصّة الشيء أو صفته أو لازمه البعيد أو القريب إلى صفة أو لازم آخر له أيضا ، وقد تكون الصفة التي تنتهي إليها معرفته من تلك الحقيقة أقرب نسبة من المشعور بها أوّلا المثيرة للطلب ، وقد يكون البعد على قدر المناسبة الثابتة بينه وبين ما يريد معرفته ، وبحسب حكم تلك المناسبة في القوّة والضعف ، وما قدّره الحقّ له. فمتى انتهت قوّة نظره بحكم المناسبة إلى بعض الصفات أو الخواصّ ، ولم ينفذ منها متعدّيا إلى كنه حقيقة الأمر ، فإنّه يطمئنّ بما حصل له من معرفة تلك الحقيقة بحسب نسبة تلك الصفة منها ومن حيث (٣) هي ، وبحسب مناسبة هذا الطالب معرفتها منها ، ويظنّ أنّه قد بلغ الغاية ، وأنّه أحاط علما بتلك الحقيقة ، وهو في نفس الأمر لم يعرفها إلّا من وجه واحد من حيث تلك الصفة الواحدة أو العارض أو الخاصّة أو اللازم. وينبعث غيره لطلب معرفة تلك الحقيقة أيضا يجاذب مناسبة خفيّة بينه وبينها من حيث (٤) صفة أخرى ، أو خاصّة أو لازم ، فيبحث ويفحص ويركّب الأقيسة والمقدّمات ساعيا في التحصيل ، حتّى ينتهي مثلا إلى تلك الصفة الأخرى ، فيعرف تلك الحقيقة من وجه آخر بحسب الصفة التي كانت منتهى معرفته من تلك الحقيقة ، فيحكم على إنّيّة الحقيقة بما تقتضيه تلك الصفة وذلك الوجه ، زاعما أنّه قد عرف كنه الحقيقة التي قصد معرفتها معرفة تامّة إحاطيّة ، وهو غالط في نفس الأمر وهكذا الثالث والرابع فصاعدا ، فيختلف حكم الناظرين في الأمر الواحد ؛ لاختلاف الصفات والخواصّ والأعراض التي هي متعلّقات مداركهم ومنتهاها من ذلك الأمر الذي قصدوا
__________________
(١) ق : به.
(٢) ه : بضعف.
(٣) ق : أبعد.
(٤) ق : حيثها.