معرفة كنهه ، والمعرّفة (١) إيّاه والمميّزة (٢) له عندهم ، فمتعلّق إدراك طائفة يخالف متعلّق (٣) إدراك الطائفة الأخرى ، كما ذكر ، ولما مرّ بيانه ، فاختلف تعريفهم لذلك الأمر الواحد ، وتحديدهم له ، وتسميتهم إيّاه ، وتعبيرهم عنه ؛ وموجب ذلك ما سبق ذكره ، وكون المدرك به أيضا ـ وهو الفكر ـ قوّة جزئيّة من بعض قوى الروح الإنساني ، فلا يمكنه أن يدرك إلّا جزئيّا مثله ؛ لما ثبت عند المحقّقين من أهل الله وأهل العقول السليمة أنّ الشيء لا يدرك بما يغائره في الحقيقة ، ولا يؤثّر شيء فيما يضادّه وينافيه من الوجه المضادّ والمنافي ، كما ستقف على أصل ذلك وسرّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فتدبّر هذه القواعد وتفهّمها ، تعرف كثيرا من سرّ اختلاف الخلق في الله [من] أهل الحجاب ، وأكثر أهل الاطّلاع والشهود ، وتعرف أيضا سبب اختلاف الناس في معلوماتهم كائنة ما كانت.
ثم نرجع ونقول : ولمّا كانت القوّة الفكريّة صفة من صفات الروح وخاصّة من خواصّه ، أدركت صفة مثلها ومن حيث إنّ القوى الروحانيّة عند المحقّقين لا تغاير الروح صحّ أن نسلّم للناظر أنّه قد عرف حقيقة مّا ، ولكن من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة ـ التي هي منتهى نظره ومعرفته ومتعلّقهما (٤) ، ـ وترتبط الصفة بها ، كما مرّ بيانه.
وقد ذهب الرئيس ابن سينا الذي هو أستاذ أهل النظر ومقتداهم عند عثوره على هذا السرّ إمّا من خلف حجاب القوّة النظريّة بصحّة الفطرة ، أو بطريق الذوق كما يومئ إليه في مواضع من كلامه إلى أنّه ليس في قدرة البشر الوقوف على حقائق الأشياء ، بل غاية الإنسان أن يدرك خواصّ الأشياء ولوازمها وعوارضها ، ومثّل في تقرير ذلك أمثلة جليّة محقّقة وبيّن المقصود بيان (٥) منصف خبير ، وسيّما فيما يرجع إلى معرفة الحقّ جلّ جلاله ، وذلك في أواخر أمره بخلاف المشهور عنه في أوائل كلامه. ولو لا التزامي بأنّي لا أنقل في هذا الكتاب كلام أحد ـ وسيّما أهل الفكر ونقلة التفاسير ـ لأوردت ذلك الفصل هنا استيفاء للحجّة على المجادلين المنكرين منهم عليهم بلسان مقامهم ؛ ولكن أضربت عنه للالتزام المذكور ، ولأنّ غاية ذلك بيان قصور القوّة الإنسانيّة من حيث فكرها عن إدراك حقائق الأشياء ، وقد سبق
__________________
(١) ب : المعرّفين.
(٢) المميّزين.
(٣) ق : مخالف بتعلق.
(٤) ب : متعلقها.
(٥) ق : بين.