أهل هذا الذوق الأشرف لمّا رأى جهنّم وهو في صلاة الكسوف ، وجعل يتّقي حرّها عن وجهه (١) بيده وثوبه ويتأخّر عن مكانه ويتضرّع ويقول : [«ألم تعدني يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم؟»] (٢) «ألم ، ألم» : حتى حجبت (٣) عنه. يريد قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٤) ، فافهم.
وأمّا الرتبة الثالثة من رتب الغضب بالنسبة إلى طائفة خاصّة فتقتضي التأبيد وكمال حكمها يوم القيامة ، كما تخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولها الذي حكاه لنا نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وهو أنّها تقول : «إنّ الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» ، فشهدت بكماله شهادة تستلم بشارة لو عرفت لم ييأس أحد من رحمة الله ،
ولو جاز إفشاء ذلك وكشف سرّ تردّد الناس إلى الأنبياء ، وانتهائهم إلى نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وسرّ فتحه باب الشفاعة ، وسرّ حثيات ربّنا ، وسرّ «فيضع الجبّار فيها ـ يعني في جهنّم ـ قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول (٥) : قطّ قطّ» أي حسبي حسبي ، وسرّ السجدات الأربع ، وما يخرج من النار (٦) في كلّ دفعة ، وما تلك المعاودة والمراودة ، وسرّ قول مالك خازن النار لنبيّنا صلىاللهعليهوآله في آخر مرّة يأتيه لإخراج آخر من يخرج بشفاعته : يا محمّد! ما تركت لغضب ربك شيئا ، وسرّ قوله تعالى : «شفعت الملائكة وشفع النبيّون وشفع المؤمنون ولم يبق إلّا أرحم الراحمين» وسرّ قوله سبحانه لنبيّه صلىاللهعليهوآله عند شفاعته في أهل لا إله إلّا الله : «ليس ذلك لك» الذي يقول في إثره : «شفعت الملائكة» ، الحديث ، وغير ذلك من الأسرار التي رمزها لنا وأجمل ذكرها لظهر (٧) ما يبهر العقول ويحيّر الألباب ، ولكنّ الأمر كما قال بعض التراجمة ـ قدّس الله روحه ـ :
وما كلّ معلوم يباح مصونه |
|
ولا كلّ ما أملت عيون الظبا يروى |
ثم اعلم ، أنّ حكم الغضب الإلهي هو تكميل مرتبة قبضة الشمال ؛ فإنّه وإن كانت كلتا يديه المقدّستين يمينا مباركة ، لكن حكم كلّ واحدة منهما يخالف [حكم] الأخرى ،
__________________
(١) ه : وجه.
(٢) ما بين المعقوفين ، غير موجود في ق.
(٣) أي حجبت جهنّم عنه.
(٤) الأنفال (٨) الآية ٣٣.
(٥) ه : يقول.
(٦) ق : جهنّم.
(٧) جواب «لو جاز».