الذهب ويظهر كماله الذاتي ، ويذهب ما جاوره ممّا لم يطلب لنفسه ، وإنّما أريد لمعنى فيه يتّصل بالذهب وقد اتّصل. كماء الورد كان أصله ماء ، وعاد إلى أصله ، لكن بمزيد عطريّة وكيفيّات مؤثرة مطلوبة استفادها لمجاورة غير الجنس ، لم تكن موجودة في مجرّد الماء أوّلا وهكذا الأمر في الغذاء يوصله الإنسان ويضمّه إليه ، فإذا استخلصت الطبيعة منه المراد رمت بالثفل ؛ إذ لا غرض فيه. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١).
وقال في هذا المعنى ببيان (٢) آخر أوضح وأتمّ تفصيلا : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) (٣) الآيات. فتدبّرها ؛ ففيها تنبيهات شريفة على أحوال أهل قبضة الغضب ، وأهل قبضة الرحمة والرضا.
وأمّا التكميل فمشار إليه في تبديل السيّئات حسنات في قوله : «أسلمت على ما أسلفت من خير». وفي الجمع بين حكم اليدين ، وفي استجلاء الرحمة المستبطنة في الغضب والقهر وفي استطعام حلاوة الحلم مع القدرة ، واستجلاء كمال الصبر مع أن لا مكره من خارج ، فافهم ، وارق ؛ فإنّك إن علوت عن هذا النمط وقت الرواح لا وقت العود استجليت سرّ القدر المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم.
ومن رقى فوق ذلك رأى غلط الإضافات السابقة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال ، فإن رقى فوق ذلك رأى الجمال المطلق لا قبح عنده ، ولا تشريف ولا غلط ولا نقص ولا تحريف.
فإن رقى فوق ذلك رأى الجور والعدل والظلم والحلم والحقوق المؤدّاة والتقصير والبخس والإذهانة والجدّ والتعظيم والكتمان والإبانة كلّها محترقة بنور السبحات
__________________
(١) الأنفال (٨) الآية ٣٧.
(٢) ق : تبيان.
(٣) الرعد (١٣) الآية ١٧.