ذلك ، أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا حكيما ، وإن لم يخطر بباله أنه هل يرى أم لا ، ولهذا لم نكفر من خالفنا في هذه المسألة ، لما كان الجهل بأنه لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته. ولهذا جوزنا في قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] أن يكون سؤال موسى عليهالسلام سؤالا لنفسه ، لأن المرئي ليس له بكونه مرئيا حالة وصفة. وعلى هذا لم نجهل شيخنا أبا علي بالأكوان حيث قال إنها مدركة بالبصر.
إذا ثبتت هذه الجملة فاعلم أنه رحمهالله بدأ بالاستدلال على هذه المسألة بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣] ووجه الدلالة في الآية ، هو ما قد ثبت من أن الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدحا راجعا إلى ذاته ، وما كان من نفيه تمدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
فإن قيل : ولم قلتم إن الإدراك إذا اقترن بالبصر لم يحتمل إلا بالرؤية؟ قلنا : لأن الرائي ليس بكونه رائيا حاله زائدة على كونه مدركا ، لأنه لو كان أمرا زائدا عليه لصح انفصال أحدهما عن الآخر إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول ، والمعلوم خلافه.
وبعد : فإن الإدراك إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة ، فقد يذكر ويراد به البلوغ ، يقال : أدرك الغلام أي بلغ الحلم ، وقد يذكر ويراد به النضج والإيناع ، يقال : أدرك الثمر إذا أينع ، فأما إذا قيد بالبصر فلا يحتمل إلا الرؤية على ما ذكرناه ، وصار الحال فيه كالحال في السكون فإنه إذا قرن بالنفس لا يحتمل إلا العلم ، وإن احتمل بإطلاقه شيئا آخر.
يبين ما ذكرناه ، أنه لا فرق بين قولهم أدركت ببصري هذا الشخص وبين قولهم رأيت ببصري هذا الشخص ، ورأيت ببصري هذا الشخص ، أو أبصرت ببصري هذا الشخص ، حتى لو قال أدركت ببصري وما رأيت ، أو رأيت وما أدركت ، لعد مناقضا.
ومن علامات اتفاق اللفظين في الفائدة ، أن يثبتا في الاستعمال معا ويزولا معا ، حتى لو أثبت بأحدهما ونفي بالآخر لتناقض الكلام ، وبهذه الطريقة نعلم اتفاق الجلوس والقعود في الفائدة وغيرها من الأسامي.
فإن قيل : كيف يصح قولكم إن من علامات اتفاق اللفظتين في الفائدة أن يثبتا في