ونحن قبل الاشتغال بإفساد هذه المذاهب نصحح ما نقوله.
فالذي يدل على ذلك هو أنا نعلم أن الظلم قبيح ، وإنما قبح لكونه ظلما ، بدليل أنا متى عرفناه ظلما عرفنا قبحه وإن لم نعرف أمرا آخر ، ومتى لم نعرف كونه ظلما لم نعرف قبحه وإن عرفنا ما عرفنا. فبان أن الظلم إنما قبح لوقوعه على وجه وهو كونه ظلما ، هذا لأن العلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح إما على جملة أو تفصيل ، فيجب متى وقع على ذلك الوجه أن يكون قبيحا ، سواء وقع من الله تعالى أو من العباد ، لأن الحال فيه كالحال في الحركة وإيجابها كون الجسم متحركا ، فكما لا يختلف ذلك بحسب اختلاف الفاعلين لما كانت علة ، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل : لم لا يقبح القبيح بصفته وعينه على ما يقوله شيخكم أبو القاسم البلخي؟ قيل له : لأن الفعل الواحد يجوز أن يقع قبيحا مرة ، بأن يقع على وجه مسببا وأخرى بأن يقع على خلاف ذلك الوجه ، ألا ترى أن دخول الدار مع أنه شيء واحد لا يمتنع أن يقبح مرة ، بأن يكون لا عن إذن ، ويحسن أخرى بأن يكون عن إذن ، وكذلك فالسجدة الواحدة لا يمتنع أن تحسن بأن تكون سجدة لله تعالى ، وتقبح بأن تكون سجدة للشيطان ، ففسد ما قاله أبو القاسم.
فإن قيل : ما أنكرتم أن القبيح فإنما يقبح للنهي ، أو لكوننا مربوبين محدثين على ما يقوله هؤلاء المجبرة قلنا : إنه لو كان كذلك لوجب إذا نهى الله تعالى عن العدل والإنصاف أن يكون قبيحا ومتى أمر بالظلم والكذب أن يكون حسنا لأن العلة فيها واحدة ، والمعلوم خلافه.
وبعد فلو حسن الفعل للأمر وقبح للنهي ، لكان يجب كما لا يقبح من الله تعالى فعل لفقد النهي أن لا يحسن منه فعل أيضا لفقد الأمر.
وبعد فلو كان كذلك ، لوجب فيمن لا يعرف النهي والناهي ، أن لا يعرف قبح الظلم والكذب ، لأن العلم بالقبح يتفرع على العلم بوجه القبح ، إما على جملة أو تفصيل. ومعلوم أن الملحدة يعرفون قبح الظلم ، وإن لم يعرفوا النهي والناهي.
فإن قيل : إنهم لا يعرفون قبح الظلم ، وإنما يعتقدونه.
قيل له : لو أمكن أن يقال ذلك هاهنا ، لأمكن أن يقال إنهم لا يعرفون الفرق بين السواد والبياض لأن سكون النفس في أحدهما كسكون النفس في الآخر ، وقد عرف خلافه.