فإن قيل : إنه تعالى إذا كلف الكافر وعلم من حاله أنه لا يؤمن فكأنه أمر بتجهيله ، وذلك فاسد ، وأيضا فقد كلفه ما لا يطيقه ، لأن القدرة على خلاف المعلوم محال. وجوابنا ، أن ما قلته أولا فلا يصح ، لأن التجهيل هو ما يصير الشيء جاهلا ، والإيمان لا حظ له في ذلك ، وأيضا فإن القديم تعالى كما علم من حال الكافر أنه لا يؤمن ، فقد علم من حاله أنه لو اختار الإيمان لقدر عليه ، وهذا هو الذي يحتاج إليه المكلف في اختيار الإيمان ، لا علم الله تعالى به. وأما ما ذكرته ثانيا ، فقد أجبنا عنه ، وبينا أن المعلوم أنه يقع ، كما المعلوم أنه لا يقع في تعلق القدرة به ، ففسد ما ذكرتموه.
وقد أورد رحمهالله وجها آخر على وجه الإيناس والتقريب ، فقال : لو لم يكلف الله تعالى إلا من المعلوم من حاله أنه يؤمن كان ذلك إغراء بالقبيح ، والإغراق بالقبيح قبيح. يبين ذلك ويوضحه ، أن المرء إذا علم أنه لا يكلفه الله تعالى إلا وقد علم من حاله أنه يؤمن لا محالة وأنه يصل إلى الثواب كان مغرى بالقبيح ، وذلك فاسد ، وفي فساده دليل على أنه تعالى كما يكلف من المعلوم من حاله أنه يؤمن ، فإنه يكلف من المعلوم من حاله أنه يكفر ، ولا بد من ذلك ليعلم المكلف أن الأمر فيما ينفعه أو يضره موكول إلى اختياره ومفوض إليه ، فإن أحسن الاختيار لنفسه واختار الإيمان تخلص من العقاب وظفر بالثواب ، وإن أساء الاختيار واختيار الكفر استوجب من الله العقوبة.
يحصل من هذه الجملة أن تكليف الكافر كتكليف المؤمن في الحسن ولا خلاف في هذا ، وإنما الخلاف في وجه حسن تكليف الله تعالى من المعلوم أنه يكفر ، فعندنا أنه إنما حسن تكليفه لأن الله تعالى عرضه لدرجة لا تنال إلا بالتكليف وهي درجة الثواب ، وعند شيخنا أبي القاسم أنه إنما حسن تكليفه لأنه أصلح ، وأراد بالأصلح الأنفع ، حتى قال : إنه يحسن من الله تعالى تكليف زيد إذا علم أن عند تكليفه يؤمن جماعة من الناس وإن كان المعلوم من حاله أنه لا يؤمن ، لأن الاعتبار بكثرة النفع ، وذلك فاسد عندنا ، لأن تكليف الغير لنفع الغير يكون ظلما ، وإن بلغ ذلك النفع ، ما بلغ لو لا ذلك وإلا كان لا يكون في العالم ظلم ، فما من شيء إلا وفيه نفع الظالم وأهل بيته ، وفي عددهم كثرة.