النوافل ، فإنه تعالى كما كلفنا الواجبات فقد كلفنا النوافل أيضا ، فكان يجب عليه اللطف سواء كان لطفا في فريضة أو في نافلة ، خلاف الواحد منا ، إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على صحة ما اخترناه من المذهب ، هو أنه تعالى إذا كلف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب ، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل ، وإلا عاد بالنقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى طعامه إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره ، فإنه يجب عليه أن يبعث ، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : إن ذلك إنما وجب في الشاهد لأنه يستضر بإنفاق ما أنفق إن لم يجبه صديقه ، وهذا غير ثابت في القديم جل وعز.
وجوابنا ، إنا نفرض الكلام فيمن لا يبالي بهذا القدر ولا يقع ذلك في عينه ، ونقول : إنه لو استمر به ذلك الداعي ثم لا يفعل ما ذكرناه ، فإنه يكون عائدا بالنقض على غرضه ، كذلك كان مثله في مسألتنا.
فإن قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب في الواحد منا إذا أراد أن يضيف غيره وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلا إذا بعث إليه بقبالات أملاكه أن يجب ذلك عليه ، وأيضا فكان يجب إذا قال لعبده : اسقني شربة من ماء أو ناولني هذا الكوز ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى ذلك إلا إذا مكنه نفسه أو أعتق رقبته أن يجب ذلك عليه ، ومعلوم خلافه.
وجوابنا عن الأول ، أن أحدنا إنما يفعل ذلك للنفع والذكر الجميل ، أما إذا بلغ الأمر إلى هذا الحد ، فإن داعيه يتغير لا محالة ولا يستمر على ذلك ، لأن ما يلحقه بذلك من الضرر أضعاف ما كان يرجوه منه من النفع والذكر الجميل ، ولا تسمح النفس ببذل الأموال النفيسة في ادخار هذا القدر من الذكر ، ولهذا ، إن كان يريد ضيافة ملك وعلم أن في ضيافته نفعا يوازي ذلك القدر ، فإنه يحسن بل يجب.
وهكذا الجواب عن الثاني ، لأن المولى إذا علم من حاله أنه يموت من العطش إن لم يشرب تلك الشربة ، وعلم أنه لا يسقيها إلا إذا أعتقه ، فإنه يجب عليه ذلك ، وإلا عاد بالنقض على غرضه.