وربما قالوا : إن ما أتى به الأنبياء لا يخلو ، إما أن يكون موافقا للعقل ففي العقل غنية عنه وكفاية ، أو مخالفا له ، وذلك ما يوجب أن يرد عليهم وأن لا يقبل منهم.
وربما قالوا : إنه تعالى إذا بعث إلينا رسولا فلا بد من أن يظهر عليه علما معجزا دالا على نبوته ليكون فرقا بينه وبين المتنبي ، ولا يمكننا أن نميز بين المعجز والحيلة بوجه ، لأنه ما من معجز إلا ويجوز أن يكون من باب الشعوذة وخفة اليد وما جرى مجراها ، فيجب أن لا يقبل قولهم ويعتمد على العقول.
والأصل في هذا الباب أن نقول : إنه قد تقرر في عقل كل عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس ، وثبت أيضا أن ما يدعو إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة ، وما يصرف عن الواجب ويدعو إلى القبيح فهو قبيح لا محالة ، إذا صح هذا ، وكنا نجوز أن يكون في الأفعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وفيها ما إذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك ، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف وبين ما لا يكون كذلك ، فلا بد من أن يعرفنا الله تعالى حال هذه الأفعال كي لا يكون عائدا بالنقص على غرضه بالتكيف. وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلا بأن يبعث إلينا رسولا مؤيدا بعلم معجز دال على صدقه فلا بد من أن يفعل ذلك ، ولا يجوز له الإخلال به ، ولهذه الجملة قال مشايخنا : إن البعثة متى حسنت وجبت على معنى أنها متى لم تجب قبحت لا محالة ، وأنها كالثواب في هذا الباب ، فهو أيضا مما لا ينفصل حسنه عن الوجوب ، فهذا فصل.
فصل آخر
وهو أن تعلم أن الأفعال ما من شيء منها إلا ويجوز أن يقع على وجه فيحسن ، وعلى خلاف ذلك الوجه فيقبح ، وأما أن نحكم على فعل من الأفعال بالقبح والحسن بمجرده ، فلا. إذا أثبت هذان الأصلان بطل قول من قال : إن هؤلاء الرسل إن أتوا بما في العقل ففي العقل كفاية عنهم ، وإن أتوا بخلافه فيجب أن يكون قولهم مردودا عليهم غير مقبول منهم ، لأن ما تأتي به الرسل والحال ما قلناه ، لا يكون إلا تفصيل ما تقرر جملته في العقل ، فقد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل ، إلا أنا لما لم يمكنا أن نعلم عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة ، بعث الله تعالى