ربما يسمعون كلام الحجاج لكن لا على حد استماعهم كلام غيره ، فقد جعلت الطباع على الإصغاء إلى كلام الرئيس دون المرءوس ، فإنك تعلم أن محفلا من المحافل لو اشتمل على الرأس والذنب ، وتكلم كل منهم بكلام ، فإن إصغاء أهل المحفل إلى كلام الرئيس فأما القبول فلا ، ففسد ما ظنوه.
قالوا : جوزوا الكبيرة على الرسول سرا وبحيث لا يطلع عليه أحد ، فإنه والحال هذه مما لا ينفر عنه. قيل : إن الرسول لا بد من أن يرسل الله تعالى إليه رسولا آخر ، فمتى جوز عليه الكبيرة قياسا على نفسه ، لم يكن أقرب إلى القبول منه. وعلى أنا إذا جوزنا الكبيرة على الأنبياء نفرنا ذلك عن القبول منهم كما لو قطعنا على ذلك فصح أن الكبيرة غير جائزة على الأنبياء لا قبل البعثة ولا بعدها ، وكما لا يصح عليهم الكبيرة فكذلك لا يصح عليهم شيء في المنفرات على ما سبق ، نحو الكذب والسرقة ونحو دمامة الخلقة وقبح المنظر ، بحيث ينفر ، وليس يمتنع فيما ينفر في زمان ألا ينفر في زمان آخر ، فإن للأزمنة والعادات تأثير في ذلك.
فأما الصغائر التي لاحظ لها إلا في تقليل الثواب دون التنفير ، فإنها مجوزة على الأنبياء ، ولا مانع يمنع منه ، لأن قلة الثواب مما لا يقدح في صدق الرسل ولا في القبول منهم.
وقد ذكر بعد هذا ، أن البعثة لا بد من أن تكون لطفا لنا ، وكما تكون لطفا فلا بد أن تكون لطفا للمبعوث ، لأنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يحمل المكلف مشقة لنفع مكلف آخر فقط ، وذلك صحيح على ما تقدم. وذكر أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة شخص واحد بعينه وجب أن يبعثه بعينه ولا يعدل عنه إلى الغير ، وإذا علم أن صلاحنا في بعثة شخصين وجب بعثتهما لا محالة ، ولا يجوز له الإخلال بها ، وكذلك إذا علم أن صلاحنا في بعثة جماعة وجب أن يبعث الكل فأما إذا علم أن الصلاح معلق ببعثة كل واحد من الجماعة على انفراد ، فإنه يكون بالخيار ، إن شاء اختار هذا ، وإن شاء اختار غيره ، وليس يلزمه بعثة الأفضل إذا كان هو والمفضول سواء في المصلحة ، هذا قبل البعثة ، فأما بعدها فإن المبعوث يصير أفضل لا محالة بتحمله الرسالة. وقد اتفقت الأمة على أن المبعوث يكون أفضل من غير المبعوث لا محالة.
وقد أورد رحمهالله بعد هذا الجملة ، الكلام في نسخ الشرائع.