الذي ذكرنا ، هو أنه إن وجب عقلا فإما أن يجب للنفع أو لدفع الضرر ، ولا يجوز أن يجب للنفع لأن طلب النفع لا يجب فلأن لا يجب الإيجاب لأجله أولى ، فليس إلا أن يكون وجوبه لدفع الضرر على ما نقوله.
فإن قيل : هلا جاز أن يكون الوجه في وجوبه هو أن لا يقع المنكر ولا يضيع المعروف فيكون وجوبه معلوما عقلا فإن ذلك أمر معقول؟ قيل له : لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يمنعنا الله تعالى عن المنكر ويلجئنا إلى المعروف ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الوجه في وجوبه كونه لطفا لنا ومصلحة؟.
قلنا : إن هذا وإن كان هو الوجه في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنا لا نعلم ذلك من حاله إلا بالشرع ، لأنه ليس في قوة العقل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدعونا إلى الواجب ويصرفنا عن القبيح.
فإن قيل : أو لستم قد عرفتم بالعقول أن معرفة الله تعالى لطف ، وأن نعته من هو كافر في الحال أو كان كافرا من قبل مفسدة ، فهلا جاز مثله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلنا : إن هذا اقتراح على العقل وذلك مما لا وجه له ، فليس يجب إذا علمنا أمرا من الأمور عقلا ، بأن قرر الله تعالى في عقولنا ، أن نعلم أيضا بالعقل ما لم يقرره فيه ، ففسد هذا الكلام.
يبين ذلك ، أن ما قالوه جمع بين أمرين من غير علة جامعة بينهما ، فيقال لهم : ما أنكرتم أنا إنما علمنا كون المعرفة لطفا لنا بالعقل ، لأنه قرر تعالى كونه لطفا في عقولنا ، وهذا غير ثابت فيما نحن فيه ، فلا يجب أن نعلمه أيضا بالعقل.
وأما ما يقوله أبو علي في هذا الباب ، فهو أنه لو لم يكن الطريق إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العقل ، لكان يجب أن يكون المكلف مغرى بالقبيح ، ويكون في الحكم كمن أبيح له ذلك ، فليس يصح ، لأن ذلك يقتضي أن لا يجب واجب ولا يقبح قبيح إلا والطريق إلى وجوبه أو قبحه العقل ، والإلزام أن يكون المكلف مغرى على القبيح وعلى الإخلال بما هو واجب عليه ، ويكون كأنه أبيح له ذلك ، ومعلوم خلاف ذلك.
يبين ذلك ويوضحه ، أن وجوب الصلاة وقبح الزنا إنما نعلمه شرعا ، ثم لم يقتض أن يكون المرء من قبل كان مغرى على القبيح أو الإخلال بالواجب ، أو يكون في الحكم كمن أبيح له شيء من ذلك.