ثمّ إنّ المهاجرة يمكن أن تكون لطلب المكاسب الدنيوية ونيل المكاسب المادية وزيادة المال والثروة أو ما شابه ذلك من الأُمور المادية ، فإذا ما حصل الإنسان على مراده من هجرته وانتقاله فلا ريب أنّه يكون قد حصل على الكمال المادّي الذي توخّاه من هجرته ، ولكن الهجرة في المفهوم القرآني تختلف عن ذلك اختلافاً واضحاً ، فإنّ القرآن يرى أنّ الهجرة في الواقع هي هجرة الجسد والروح معاً ، بمعنى أنّه كما أنّ الجسد يغيّر مكانه وينتقل إلى مكان آخر ، كذلك الروح تهاجر من الشرك إلى التوحيد ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن العصيان والتمرد إلى الطاعة. تهاجر من الأجواء الضاغطة على إقامة الفرائض إلى أجواء مفتوحة يسمح لها أن تمارس طقوسها بحرية واختيار واطمئنان.
ففي النوع الأوّل من الهجرة يقطع الجسم أواصره وروابطه المادية مع مكان خاص كان قد ارتبط به وقامت بينهما مجموعة من العلاقات والأواصر ، والحال انّ في النوع الثاني من الهجرة ليس الجسم وحده هو الذي يقطع أواصره وروابطه ، بل الروح أيضاً تقطع علاقاتها وروابطها مع الوكر الضيق والمظلم والفضاء الموحش الذي تعيش فيه وتهاجر لغرض الحفاظ على دينها وإيمانها ، ولكي تتمكّن أن تعبد ربّها بعيداً عن الأجواء الضاغطة وتعيش في فضاء فسيح ملؤه المعنويات والحرية العبادية وتلقي هناك رحلها بعيداً عن أعين الظالمين والمشركين ، نعم سوف نتحدّث وباختصار في نهاية البحث عمّا ورد عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال : «المهاجر من هجر ما حرّم الله عليه». (١)
من هذا المنطلق أولى القرآن الكريم والسنّة النبوية مسألة «الهجرة» عناية
__________________
(١). جامع الأُصول : ١ / ١٥٤.