ثم جهة البطلان ـ والله أعلم ـ أن الله عزوجل وعد لمن تصدق الثواب عليها ، بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] ، وقال : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠] ، وقال فى آية أخرى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ..). الآية [التوبة : ١١١]. وإن كانت تلك الأموال فى الحقيقة له أعطاهم الثواب على ذلك ، فأخبر أن من أعطى آخر شيئا ببدل لا يمن عليه ، كالمبادلات التى تجرى بين الناس ، ألا يكون لبعض على بعض جهة المنّ ، إذا أخذ بدل ما أعطاه ، وأن يقال : إن الأموال كلها لله تعالى ، فإنما أعطى ماله ، وكل من أعطى ماله آخر لا يستوجب ذلك حمدا ولا منّا.
ثم اختلف فى قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) :
قال بعضهم (١) : هم المنافقون ، كانوا ينفقون أموالهم رياء. دليله قوله تعالى : (وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، شبه الصدقة التى فيها (منّ) و (أذى) بالصدقة التى فيها رياء. وذلك ـ والله أعلم ـ أن الصدقة التى فيها (من) و (أذى) لم يبتغ بها وجه الله ، فكان كالصدقة التى ينفقها للزيادة لا يبتغى بها وجه الله تعالى [وقال آخرون : كل صدقة فيها رياء فذلك ، كافرا كان منفقها أو مسلما ؛ لأنها لم يبتغ فيها وجه الله تعالى](٢) والدار الآخرة.
ثم ضرب المثل للصدقة المبتغى بها الرياء ، والصدقة التى فيها المن والأذى بالصفوان الذى عليه التراب : وهو الحجر الأملس ، فقال :
(كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا).
قيل (٣) : (الوابل) هو المطر الشديد عظيم القدر.
وفى ضرب الأمثال تعريف ما غاب عن الأبصار بما هو محسوس ؛ وذلك أن الصفوان الذى به ضرب المثل ، والتراب محسوس ، ومن التراب جعل الأغذية للخلق والدواب. ثم الثواب الذى وعد للصدقة ليس بمحسوس ، بل هو غائب ، فعرف الغائب بالمحسوس. فقال : لما كان التراب الذى به تكون الأغذية يذهب بالمطر الشديد حتى لا يبقى له أثر ،
__________________
(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٦٠٤٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٦٠٠).
(٢) ما بين المعقوفين سقط فى ط.
(٣) قاله السدى والضحاك وقتادة والربيع ، أخرجه ابن جرير عنهم (٦٠٥٣ ، ٦٠٥٤ ، ٦٠٥٥ ، ٦٠٥٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٦٠٠).