ذلك ، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة ؛ ألا ترى أن إبراهيم ـ صلوات الله على نبيّنا وعليه ـ لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه ، حتى قال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الحجر : ٦٢] ، حتى قالوا : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٠] ، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة ، رسل الله ، أرسلهم إليه.
وقوله : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً)
قال بعض أهل التفسير (١) : حبس لسانه عقوبة له بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) لكن ذلك خطأ ، والوجه فيه : منعه من تكليم الناس ، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه ؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربّه ، ويسبّح بالعشى والإبكار ؛ كقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)؟!.
ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله ؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه ، فأراه بمنع اللسان عن النطق ، وأعلى أحوال الاحتمال ؛ ليكون آية للأوّل.
وقيل في قوله : (اجْعَلْ لِي آيَةً) : أنه طلب آية ؛ لجهله بعلوق الولد ، وجعلها ليعرف متى يأتيها؟ (٢).
وقوله : (إِلَّا رَمْزاً) : قيل : الرّمز : هو تحريك الشفتين (٣).
وقيل : هو الإيماء بشفتيه (٤).
وقيل : هو الإشارة بالرأس (٥).
وقيل : هو الإشارة باليد (٦) ، والله أعلم بذلك (٧).
__________________
(١) ورد عن قتادة : أنه عوقب بذلك لأنه سأل الآية بعد ما شافهته الملائكة فبشرته بيحيى ، أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٦) (٧٠٠٥ ، ٧٠٠٦) وابن أبي حاتم (٢ / ٢٥٢) (٥٠٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وعبد بن حميد ، وهذا القول قاله أكثر المفسرين كما في تفسير القرطبي (٤ / ٥٢).
(٢) قاله أبو مسلم ، وينظر : «اللباب في علوم الكتاب» (٥ / ٢٠٩).
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٢٥٣) (٥٠٧) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٩) (٧٠١١ ، ٧٠١٢) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
(٥) أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٩) (٧٠١٤) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) وعزاه للطبري.
(٦) أخرجه الطبري (٦ / ٣٨٩) (٧٠١٥) عن ابن عباس.
(٧) قال السيوطي في «الإكليل» : في الآية الحث على ذكر الله ـ تعالى ـ وهو من شعب الإيمان. قال محمد بن كعب : لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص ـ زكريا ؛ لأنه منعه من الكلام وأمره ـ