التي أنفقوها في صد الناس ـ تنفعهم في الآخرة ، وتقربهم إلى الله ، فأخبر أنها لا تنفع ، فكان كالريح التي فيها صرّ وبرد ، ظنوا أن فيها رحمة ، وشيئا ينفع زروعهم ، وينمو بها ، فإذا فيها نار أحرقت حرثهم ؛ كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا ـ بالآخرة ؛ قربة وزلفة إليه ، فإذا هي مهلكة لأبدانهم ؛ كالريح التي فيها صرّ كانت مهلكة ؛ محرقة لزروعهم وحرثهم ، والله أعلم.
والصرّ : هو البرد الشديد. وقيل : الصر : الصوت ؛ كقوله : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها)(١) [الذاريات : ٢٩].
قيل : هي الصوت.
قيل : مثل ما ينفقون في الصدّ عن سبيل الله ، وفي قتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا ..). الآية [الأنفال : ٣٦] ، أي : يتأسفون على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه (٢) ، والله أعلم.
وقوله : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) : والظلم : ما ذكرنا : هو وضع الشيء في غير موضعه ، فهو ـ والله أعلم ـ قال : هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها ، لا أن وضع الله أنفسهم ذلك الموضع ؛ لأنهم عبدوا غير الله ، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين لله ، فهم الذين ظلموا أنفسهم ؛ حيث أسلموها لغير الله ، وعبدوا دونه ، فذلك وضعها في غير موضعها ؛ لأن وضعها موضعها هو أن يجعلوها خالصة لله ، سالمة له.
وقيل : ما ضروا الله بعبادتهم غيره وبكفرهم به ، إنما ضروا أنفسهم ؛ إذ لا حاجة له إلى عبادتهم (٣) ، والله الموفق.
قال الشيخ ـ رحمهالله ـ : تقديم وتأخير ، وأصل ذلك أن الله قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودية ، فجعلوها عبدة غيره.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
__________________
(١) قاله ابن الأنباريّ كما في تفسير الفخر الرازي (٨ / ١٧١) وقال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : فيها برد شديد. معالم التنزيل (١ / ٣٤٤).
(٢) قال بنحوه السدي أخرجه عنه الطبري (٧ / ١٣٥ ، ١٣٦) (٧٦٦٨) ، وابن أبي حاتم (٢ / ٤٩٦) (١٢٦٠).
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (٢ / ٤٩٧) (١٢٦٣) عن ابن عباس ، وذكره بمعناه ابن جرير في تفسيره من قوله (٧ / ١٣٧ ، ١٣٨).