والجن ؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم؟! فإذا كان كذلك بعثوا منهم ؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة ، والله أعلم.
ثم المنة الثانية : حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحسبهم لم يبعثهم من غيرهم ؛ وذلك أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة ، فبعثهم منهم (١) ؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم ، لمّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك ؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة ـ لا يكذبون على الله تعالى.
والثاني : أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون : إنما كان ذلك بتعليم من أحد ، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا ، بعثهم الله منهم ؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد ، ولا اختلفوا فيه ـ أنهم إنما علموا ذلك بالله ـ تعالى ـ لا بأحد من البشر ، والله أعلم.
ألا ترى أن ما أتى به موسى ـ صلوات الله عليه ـ من الآيات من نحو : العصا ، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته : لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط ، وقد نشأ بين أظهرهم ، فكيف ولم يكن سحرا؟! فدل أن لله على خلقه منة عظيمة ؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم ، وممن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا ، والله أعلم.
وقيل : قوله : (رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : من العرب معروف النسب أميّا (٢) ؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويّا وحيا ، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله ، كقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) الآية [العنكبوت : ٤٨].
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) :
يحتمل : إعلام رسالته ونبوته ، ويحتمل الآيات الحجج والبراهين ، هما واحد ، ويحتمل : آيات القرآن.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُزَكِّيهِمْ) :
يحتمل : التزكية من الزكاء والنماء ، وهو أن أظهر ذكرهم ، وأفشى شرفهم ومذاهبهم ؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها)
__________________
(١) في ب : منة.
(٢) أخرجه بنحوه البيهقي في الشعب (٢ / ٢٣٢) عن عائشة موقوفا ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ١٦٥) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عائشة.