اغترف غرفة بيده ، فكانت نتيجة الاختبار أن شربوا منه جميعا إلا قليلا منهم (إن الكرام قليل). وهكذا من يحكم عقله في هواه ويؤمن بالله ، فئة قليلة العدد كثيرة الإيمان والخطر ، فأنت ترى أن مراتب الناس ثلاثة : منهم من شرب وعب بفمه ، ومنهم من لم يتذوقه أصلا ، ومنهم من اغترف بيده غرفة.
فلما جاوز النهر هو والذين معه من المؤمنين الصادقين (أما غيرهم فقد استهواهم الماء العذب فأخذوا يشربون ويطربون ثم لحقوا بهم آخر الأمر).
قال بعض الجيش ممن شرب لما رأى جند الأعداء وكثرة عددهم وتفوقهم : لا قدرة لنا اليوم ولا طاقة بمحاربة الأعداء ومناضلتهم فضلا عن التغلب عليهم ، وقال المؤمنون الذين يظنون أنهم ملاقو الله فمجازيهم على أعمالهم الذين ينتظرون إحدى الحسنيين : إما شهادة في سبيل الله ، وإما نصر على الكافرين ، فإن عاشوا عاشوا آمنين وإن ماتوا ماتوا شهداء مكرمين.
قالوا : لا تغرنكم أيها القوم كثرتهم ، فكثيرا ما غلبت فئة قليلة العدد فئة كثيرة العدد غلبت بقوة إيمانها وإرادة ربها ، وإذنه والله مع الصابرين بالتأكيد والمعونة (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ، (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا).
ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت وجنوده وشاهدوا أمامهم من العدد والعدد وحانت ساعة الالتجاء إلى الله حقيقة حيث تتلاشى قوة البشر قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وهنا تجلت عظمة الله وقدرته بأجلى مظهر حتى يعتبر الناس ويتعظوا.
هزمت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته وقتل داود (وكان فتى في الجيش قويّا جلدا) جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء من العلوم إنه على كل شيء قدير.
والحرب سنّة طبيعية في الخلق من يوم أن اقتتل ابني آدم وهي على ما فيها من ضرر وخطر لا تخلو من نفع وخير ؛ إذ لو لا أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض ، ويسلط جماعة على جماعة لفسدت الأرض وعمت الفوضى ، وانتشر الظلم وهدّمت أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله ، ولكن الله ذو فضل على الناس جميعا حيث يسلط على الظالم من يبيده ويهلكه ، فإذا نبت ظالم آخر أرسل له من يفتك به ، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب.
تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد دالة على صدقك وأنك رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين ، والله أعلم.