لهذا ؛ والله أعلم بما وضعت وبمكانتها وأنها خير من كثير من الذكور ، وقد بين ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ) الذي طلبت كالأنثى التي وضعت ، بل هذه الأنثى خير مما كنت ترغبينه من الذكور.
قالت امرأة عمران : إنى سميتها مريم خادمة الرب آمل أن تكون بأمرك من العابدات وإنى أستعيذ بالله وأدعوه أن يقيها هي وذريتها (عيسى) من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب الله دعاءها ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها» (١) والمعنى في الحديث أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها ، فالحديث من باب التمثيل لا الحقيقة ، وهذا لا يمنع أن إبليس كان يوسوس لعيسى ـ عليهالسلام ـ كما ثبت في إنجيل مرقص ، ومع هذا ما كان يطيعه ، فقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن ، ورضى أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت ورباها تربية عالية تشمل الجسد والروح وكفاها فخرا بهذا.
وجعل زكريا (وكان رجلا معروفا بالخلق والتقوى وكان زوج خالتها) كافلا لها وراعيا حتى شبت وترعرعت وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيرا كثيرا وفضلا من الرزق فيقول لها : يا مريم أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض ، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب.
العبرة من القصة :
المشركون وأهل الكتاب كانوا ينكرون على النبي صلىاللهعليهوسلم نبوته لأنه بشر مثلهم وليس من بنى إسرائيل فيرد الله عليهم : إن الله اصطفى آدم أبا البشر ونوحا الأب الثاني واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم ومن آل ابراهيم آل عمران.
والمشركون يعترفون باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم لأنهم من سلالته ، وبنو إسرائيل يعترفون بهذا ، واصطفاء آل عمران لأنهم من سلالة بنى إسرائيل حفيد إبراهيم ، وإذا كان الله اصطفى هؤلاء على غيرهم من غير مزية سبقت فما المانع له من اصطفاء محمد صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى بنى إسرائيل على غيرهم.
__________________
(١) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء حديث رقم ٣٤٣١.