المعنى :
أعمى هؤلاء عن حقيقة الرسالة وكنه الهداية فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ ولو تدبروه لعلموا أنه الحق من ربهم إذ هو في صدق في إخباره عما تكنّه ضمائرهم وما تخفيه سرائرهم ، ولكن ختم الله على قلوبهم وأضل أعمالهم!! ولو كان هذا القرآن الذي هو عماد الدعوة المحمدية من عند غير الله بأن كان من عند محمد بن عبد الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا في نظمه من جهة البلاغة فيكون بعضه عاليا بلغ حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه ، وبعضه صحيح المعنى وبعضه سقيمه ، وجزء وافق في إخباره بالغيب وجزء خالف!!! وكان بعضه موفقا صادقا في تصوير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم ، فكان مثلا أعلى ، وبعضه غير موافق.
وناهيك بوضع الآيات وترتيبها مع أنها نزلت منجمة غير مرتبة ، وسبحان الله وتعالى عما يصفون ، وكيف لا يكون القرآن من عند الله وفيه تصوير الحقائق تصويرا تامّا كاملا بلا اختلاف ولا تفاوت في أى جزئية.
وفيه الإخبار عن الماضي الذي لم يشاهده محمد بن عبد الله ولم يتيسر له أن يقف على تاريخه ، وعن الحاضر والمستقبل ، بل على مكنونات الأنفس ومخبئات الضمائر ، وأما الأصول والقواعد في التشريع والسياسة العامة والخاصة للفرد والأمة فيكفى شهادة الأعداء له ، والحديث فيه عن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الإنسان مع ضرب الأمثال والقصص الذي يسحر القلوب ويخطف الأبصار فأمر لا ينكره إلا مكابر ، وأما البلاغة والجزالة فهو الذي أعجز فحول البلاغة من العرب وتحداهم فقهرهم وأذلهم على كره منهم.
(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا (مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (الزمر ٢٣).
ولو تدبر المسلمون القرآن الكريم وفهموه فهما صحيحا سليما ووقفوا على أسراره لما وصلوا إلى ما وصلوا.