المعنى :
كان اليهود قديما كلما ارتكبوا ذنبا خاصة بعد ما تابوا من عبادة العجل ، حرم الله عليهم نوعا من الطيبات التي كانت حلالا لهم ولأسلافهم من قبل ، فبسبب هذا الظلم الذي لا يعرف كنهه إلا الله حرم عليهم ما حرم ، ومع هذا كانوا يفترون على الله الكذب ويقولون : هذه المحرمات كانت جراما علينا وعلى نوح وإبراهيم ومن بعدهما ، ولذا كذبهم الله تعالى في كثير من الآيات : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ) [آل عمران ٩٣]. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) [سورة الأنعام آية ١٤٦] .. ثم شرع القرآن في بيان مجمل الظلم الصادر منهم فقال : وبسبب صدهم عن سبيل الله كثيرا من الناس لقد منعوا أنفسهم وغيرهم من الإيمان بالله بسبب عصيانهم موسى وعنادهم مرارا ، وبالقدوة السيئة لغيرهم في الكفر ، وأمرهم بالمنكر ، ونهيهم عن المعروف ، وكتمانهم البشارة ووصف النبي صلىاللهعليهوسلم وبسبب أخذهم الربا من غيرهم وأكله معتقدين حله ، وقد كتب في التوراة المحرفة : إن الربا حلال مع غير اليهود حرام مع اليهود ، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل من طريق الرشوة والنصب والاحتيال والغش (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (١) وجزاء هؤلاء الظلمة لأنفسهم ولغيرهم أن الله هيأ للكافرين منهم عذابا ذا إهانة وذل لهم في الدنيا والآخرة ، وقد ذكر أن تحريم الطيبات كان عاما ، أما العذاب فكان للمصرين منهم على الكفر ، وبعد أن بيّن الله قبائحهم وجزاءهم عليها! وأنه شامل للكل استدرك على ذلك بقوله :
لكن الراسخون في العلم الثابتون فيه ، الذين لا يشترون الضلالة بالهدى ، وهم المنتفعون به المؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل عليك ، وبما أنزل على من قبلك من الرسل ، وهم لا يفرقون بين أحد منهم ، وأخصّ المقيمين الصلاة المؤدين لها تامة الأركان ، مستوفية الشروط بالجوارح والقلب ، والمؤتون الزكاة لمن يستحقها ، والمؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا فلا يقولون : عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ، ولا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة أولئك البعيدون في درجات الكمال سيؤتيهم ربهم أجرا لا يعلم قدره إلا هو ، أجرا عظيما من عنده.
__________________
(١) سورة المائدة الآية ٤٢.