وعلى فرض الإغضاء عن كلّ هذه وعن أسباب نزول الآيات وتسليم إمكان المعارضة بين الآيتين ، فإنّ دليل الحظر مقدّم على دليل الإباحة في صورة التعارض ووحدة سبب الدليلين ، كما بيّنه علماء علم الأُصول ونصّ عليه في هذه المسألة الجصّاص في أحكام القرآن (١) (٢ / ١٥٨) والرازي في تفسيره (٢) (٣ / ١٩٣).
لكن عثمان كان لا يعرف كلّ هذا ، ولا أحاط بشيء من أسباب نزول الآيات ، فطفق يغلّب دليل الإباحة في مزعمته على دليل التحريم المتسالم عليه عند الكلّ ، وقد عزب عنه حكم العقل المستدعي لتقديم أدلّة الحرمة دفعاً للضرر المحتمل ، وقد شذّ بذلك عن جميع الأُمّة كما عرفت تفصيله ، ولم يوافقه على هذا الحسبان أيّ أحد إلاّ ما يعزى إلى ابن عبّاس بنقل مختلف فيه كما مرّ عن أبي عمر في الاستذكار.
وفي كلام الخليفة شذوذ آخر وهو قوله : كلُّ شيء حرّمه الله تعالى من الحرائر حرّمه الله تعالى من الإماء إلاّ الجمع بالوطء بملك اليمين. فهو باطل في الاستثناء والمستثنى منه ، أمّا الاستثناء فقد عرفت إطباق الكلّ على حرمة الجمع بين الأُختين بالوطء بملك اليمين معتضداً بالكتاب والسنّة ، وأمّا المستثنى منه فقد أبقى فيه ما هو خارج منه بالاتّفاق من الأُمّة جمعاء وهو العدد المأخوذ في الحرائر دون الإماء.
لقد فتحت أمثال هذه المزاعم الباطلة الشاذّة عن الكتاب وفقه الإسلام باب الشجار على الأُمّة بمصراعيه ، فإنّها في الأغلب لا تفقد متابعاً أو مجادلاً قد ضلّوا وأضلّوا وهم لا يشعرون ، وهناك شرذمة سبقها الإجماع ولحقها من أهل الظاهر لا يُؤبه بهم لم يزالوا مصرّين على رأي الخليفة في هذه المسألة ، لكنّهم شذّاذ عن الطريقة المثلى. قال القرطبي في تفسيره (٣) (٥ / ١١٧) : شذّ أهل الظاهر فقالوا : يجوز
__________________
(١) أحكام القرآن : ٢ / ١٣٠.
(٢) التفسير الكبير : ١٠ / ٣٦.
(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٥ / ٧٧.