على أنّه ليس من الممكن في عاصمة النبوّة أن يجهل ذلك أيُّ أحد وهو يشاهد في الفينة بعد الفينة مجلوداً تنال منه السياط ، ومرجوماً تتقاذفه الأحجار.
وأمّا حرمة الزنا فلا يقبل من المعتذر بالجهل بها ، إلاّ حيث يمكن صدقه كمن عاش في أقاصي البراري والفلوات والبقاع النائية عن المراكز الإسلاميّة ، فيمكن أن يكون الحكم لم يبلغه بعدُ ، وأمّا المدنيُّ يومئذٍ الكائن بين لوائح النبوّة ومجاري الأحكام والحدود وتحت سيطرة الخلفاء ، وهو يعي كلّ حين التشديد في الزنا وحرمته ، ويشاهد العقوبات الجارية على الزناة من جرّاء حرمة السفاح ، فعقيرة ترتفع من ألم السياط ، وجنازة تُشال بعد الرجم ، فليس من الممكن في حقّه عادةً أن يجهل حرمة الزنا ، فلا تقبل منه دعواه الجهل ، ولعلّ هذا ممّا اتّفقت عليه أئمّة المذاهب. قال مالك في المدوّنة الكبرى (١) (٤ / ٣٨٢) في الرجل يطأ مكاتبته يغتصبها أو تطاوعه : لا حدّ عليه وينكّل إذا كان ممّن لا يُعذر بالجهالة.
وقال فيمن يطلّق امرأته تطليقةً قبل البناء بها فيطؤها بعد التطليقة ويقول : ظننت أنّ الواحدة لا تبينها منّي وأنّه لا يبرئها منّي إلاّ الثلاث : قال ابن القاسم : ليس عليه الحدُّ إن عذر بالجهالة ، فأرى في مسألتك إن كان ممّن يُعذر بالجهالة أن يدرأ عنه الحدّ لأنّ مالكاً قال في الرجل يتزوّج الخامسة : إن كان ممّن يُعذر بالجهالة وممّن يظنُّ أنّه لم يعرف أنّ ما بعد الأربع ليس ممّا حرّم الله ، أو يتزوّج أُخته من الرضاع على هذا الوجه ، فإنّ مالكاً درأ عنه الحدّ وعن هؤلاء.
وفي (ص ٤٠١) (٢) : من وطئ جارية هي عنده رهن أنّه يقام عليه الحدّ ، قال ابن القاسم : ولا يعذر في هذا أحد ادّعى الجهالة. قال مالك : حديث التي قالت : زنيت
__________________
(١) المدوّنة الكبرى : ٦ / ٢٠٧.
(٢) المدوّنة الكبرى : ٦ / ٢٤٢.