المنيف ، وعضد الدين الحنيف ، ومالك أزمّة التأليف والتصنيف ، الباهر بالرواية والدراية ، والرافع لخميس المكارم أعظم راية ، فضلٌ يعثر في مداه مقتفيه ، ومحلٌّ يتمنّى البدر لو أشرق فيه ، وكرمٌ يخجل المزن الهاطل ، وشيمٌ يتحلّى بها جيد الزمن العاطل ، وصيتٌ من حسن السمعة بين السحر والنحر.
فسار مسيرَ الشمسِ في كلِّ بلدةٍ |
|
وهبَّ هبوبَ الريح في البرّ والبحرِ |
حتى كان رائد المجد لم ينتجع سوى جنابه ، وبريد الفضل لم يقعقع سوى حلقة بابه ، وكان له في مبدأ بالشام مجال لا يكذبه بارق العزّ إذا شام ، بين إعزاز وتمكين ، ومكان في جانب صاحبها مكين ، ثم انثنى عاطفاً عنانه وثانيه ، فقطن بمكة شرّفها الله تعالى وهو كعبتها الثانية ، تُستلم أركانه كما تُستلم أركان البيت العتيق ، وتُستَنْسمُ أخلاقه كما يُسْتَنْسَمُ المسك العبيق ، يعتقد الحجيج قصده من غفران الخطايا ، وينشد بحضرته :
تمام الحجّ أن تقف المطايا
وقد رأيته بها وقد أناف على التسعين ، والناس تستعين به ولا يستعين ، والنور يسطع من أسارير جبهته ، والعزّ يرتع في ميادين جدهته (١) ، ولم يزل بها إلى أن دُعي فأجاب ، وكأنَّه الغمام أمرع البلاد فانجاب ، وكانت وفاته لثلاث عشرة بقين من ذي الحجّة الحرام سنة ثمان وستّين وألف ، رحمه الله تعالى ، وله شعرٌ يدلّ على علوّ محلّه ، وإبلاغه هدي القول إلى محلّه ، فمنه قوله متغزّلاً :
يا من مضوا بفؤادي عندما رحلوا |
|
من بعدما في سويد القلب قد نزلوا |
جاروا على مهجتي ظلماً بلا سببٍ |
|
فليت شعري إلى من في الهوى عدلوا |
وأطلقوا عبرتي من بعد بُعدهمُ |
|
والعينُ أجفانَها بالسهدِ قد كحلوا |
يا من تعذّب من تسويفِهمْ كبدي |
|
ما آن يوماً لقطعِ الحبل أن تصلوا |
___________________________________
(١) كذا في المصدر.