والناس إذ ذاك في ضرّ وجهد ، قد توالى عليهم الجدب ، وغلاء السعر وعزت الأقوات وأقام الفساسيري بمكانه ، والقتال في كل يوم متصل بين الفريقين في السفن بدجلة.
فلما كان يوم الجمعة الثاني (١) دعي للمستنصر بالله صاحب مصر على المنبر بجامع المنصور ، وزيد في الأذان «حي على خير العمل». وشرع في بناء الجسر بعقد باب الطاق (٢) وكفّ الناس عن المحاربة أيّاما ، وحضر يوم الجمعة الثاني من الخطبة ، فدعي لصاحب مصر في جامع الرصافة ، وخندق الخليفة القائم بأمر الله حول داره ، ورم ما تشعث منها ، ومن أسوار المدينة ، فلما كان يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشد الفساسيري أهل الجانب الغربي والكرخ (٣) ، ونهض بهم إلى محاربة الخليفة ونشبت الحرب بين الفريقين يومين ، وقتل منهما الخلق الكثير.
وأهل هلال ذي الحجة ، فزحف الفساسيري إلى ناحية دار القائم الخليفة ، فأضرم النار من الأسواق بنهر معلّى وما يليه ، وعبر الناس لانتهاب دار الخليفة ، فنهب منها ما لا يحصى كثرة وعظما ، ونفّذ الخليفة الى قريش بن بدران العقيلي (٤) ، وكان قد ظاهر الفساسيري ، فأذم للخليفة في نفسه ، ولقيه قريش أمير بني عقيل ، فقبل الأرض دفعات ، وخرج الخليفة من الدار راكبا ، وبين يديه راية سوداء وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة ، وعلى رأسه
__________________
(١) في رواية ابن العديم : «الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة».
(٢) في رواية ابن العديم : «وشرع البساسيري في اصلاح الجسر ، فعقده بباب الطاق ، وعبر عسكره عليه ، وأنزله بالزاهر».
(٣) في رواية ابن العديم : «أهل الجانب الغربي عموما ، وأهل الكرخ خصوصا» ذلك أن جل أهل الكرخ كانوا من الشيعة.
(٤) في الأصل : مؤنس بن بدر الصقلبي ، وهو تصحيف ، صوابه ما أثبتنا من رواية ابن العديم ومما هو معروف في المصادر حول ثورة البساسيري وتاريخ الدولة العقيلية بالموصل.