وزاد الأمر في ذلك إلى حد أوجب للحاجب الفتكين الانفصال عن بغداد في فرقة وافرة من الأتراك تناهز ثلاثمائة فارس من طراخين (١) الغلمان ، ووصل أولا إلى ناحية حمص للأسباب التي أوجبت ذلك ودعت ، فأقام بها أياما قلائل ، وسار منها الى دمشق والأحداث بها على الحال المقدم شرحهما في تملّكها والغلبة عليها والتحكم فيها ، فنزل بظاهرها ، وخرج إليه شيوخها وأشرافها وخدموه وأظهروا السرور به ، وسألوه الإقامة عندهم ، والنظر في أحوالهم ، وكف الأحداث الذين بينهم ، ودفع الأذيّة المتوجهة عليهم منهم ، فأجابهم إلى ذلك بعد أن توثّق منهم وتوثقوا منه بالأيمان المؤكدة والمواثيق المشددة على الطاعة والمساعدة ، ودخل البلد وأحسن السيرة وقمع أهل الفساد وأذلّ عصب ذوي العيث والعناد ، وقامت له هيبة في الصدور ، وصلح به ما كان فاسدا من الأمور ، وكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به ، فقصدهم وأوقع بهم ، وقتل كثيرا منهم ، وظهر لهم من شجاعته وشهامته وقوة نفس من في جهته وجملته ما دعاهم إلى الاذعان بطاعته والنزول على حكمه ، والعمل بإشارته وأمر بتقرير إمضاء الاقطاعات القديمة ، وارتجاع ما سوى ذلك ، وأحسن التدبير والسياسة في ترتيب العمال في الأعمال ، وأنعم النظر في أبواب المال ووجوه الاستغلال ، فاستقام له الأمر ، وثبتت قدمه في الولاية ، وسكن أهل دمشق إلى نظره.
وكاتب المعز مكاتبة على سبيل المداجاة والمغالطة والمدامجة والتمويه والانقياد له والطاعة لأوامره ، فأجابه بالاحماد له والارتضاء بمذهبه ، والاستدعاء له الى حضرته ، ليشاهده ويصطفيه لنفسه ، ويعيده إلى ولايته بعد ذلك مكرما مولى مشرّفا ، فلم يثق إلى ذلك ، ولا سكنت نفسه إليه وامتنع من الإجابة إلى ما بعثه عليه.
__________________
(١) أي كبار الغلمان ، ومن أجل حوادث الصراع التركي الديلمي انظر تجارب الأمم لمسكويه ، ط. القاهرة ١٩١٥ : ٣١٦ ـ ٣٤٣ ، ووصل ألفتكين الى الشام عام ٣٦٤ ه.