والهرب مخذولين مفلولين (١) ، وحين عرف المسلمون ذلك ، وبانت لهم آثارهم في الرحيل ، برزوا لهم في بكرة هذا اليوم ، وسارعوا نحوهم في آثارهم بالسهام ، بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول والدواب العدد الكثير ، ووجد في آثار منازلهم وطرقاتهم من دفائن قتلاهم ، وفاخر خيولهم ما لا (١٦٢ ظ) عدد له ولا حصر يلحقه ، بحيث لها أرائح من جيفهم ، تكاد تصرع الطيور في الجو ، وكانوا قد أحرقوا الربوة والقبة الممدودة في تلك الليلة ، واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم ، وأكثروا من الشكر له تعالى ما أولاهم من إجابة دعائهم ، الذي واصلوه في أيام هذه الشدة ، فلله على ذلك الحمد والشكر.
واتفق عقيب هذه الرحمة ، اجتماع معين الدين مع نور الدين صاحب حلب ، عند قربه من دمشق للانجاد لها في أواخر شهر ربيع الآخر من السنة ،
__________________
(١) وصف سبط ابن الجوزي أحوال دمشق أواخر أيام الحصار بقوله : «ولما ضاق بأهل دمشق الحال أخرجوا الصدقات بالأموال على قدر أحوالهم ، واجتمع الناس في الجامع مع الرجال والنساء والصبيان ، ونشروا مصحف عثمان ، وحثوا الرماد على رؤوسهم ، وبكوا وتضرعوا ، فاستجاب الله لهم ، فكان للفرنج قسيس كبير ، طويل اللحية ، يقتدون به ، فأصبح في اليوم العاشر من نزولهم على دمشق ، فركب حماره ، وعلق في عنقه صليبا ، وجعل في يديه صليبين ، وعلق في عنق حماره صليبا ، وجمع بين يديه الأناجيل والصلبان ، والكتب ، والخيالة والرجالة ، ولم يتخلف من الفرنجية أحد إلا من يحفظ الخيام ، وقال لهم القيسيس : قد وعدني المسيح أنني أفتح اليوم.
وفتح المسلمون الأبواب ، واستسلموا للموت ، وغاروا للاسلام ، وحملوا حملة رجل واحد ، وكان يوما لم ير في الجاهلية والاسلام مثله ، وقصد واحد من أحداث دمشق القسيس ، وهو في أول القوم ، فضربه فأبان رأسه ، وقتل حماره ، وحمل الباقون ، فانهزم الفرنج ، وقتلوا منهم عشرة آلاف ، وأحرقوا الصلبان والخيالة بالنفط ، وتبعوهم الى الخيام ، وحال بينهم الليل ، فأصبحوا قد رحلوا ، ولم يبق لهم أثر». مرآة الزمان : ١٩٨ ـ ١٩٩.