قال تعالى : (لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) (١) ، (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (٢) ، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد ، انتهى كلامه. ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة ، وزادها تغليظا إصرارهم عليها ، والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت ، قلّت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة ، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث ، ألا ترى قوله تعالى : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (٣) ، (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) (٤) ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (٥) ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٦) ، الآيات.
وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب ، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث ، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات. والنهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب ، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم ، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض ، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهيا عنه لفظا. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٧). وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم ، ومنه مادة حياتكم ، وهو سترة أمواتكم ، جدير أن لا يفسد فيه ، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) (٨) وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (٩) ، وقال تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (١٠) ، وقوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) (١١) ، الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض ، وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٥.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.
(٣) سورة نوح : ٧١ / ١٠.
(٤) سورة الجن : ٧٢ / ١٦.
(٥) سورة الأعراف : ٧ / ٩٦.
(٦) سورة المائدة : ٥ / ٦٦.
(٧) سورة البقرة : ٢ / ٦٠.
(٨) سورة الأعراف : ٧ / ٥٦.
(٩) سورة الملك : ٦٧ / ١٥.
(١٠) سورة النازعات : ٧٩ / ٣٠ ـ ٣٣.
(١١) سورة عبس : ٨٠ / ٢٥.