وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم ، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال : أحدها : قول ابن عباس : إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني : قول مجاهد وهو : أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث : أن ممالأة النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع : أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحا لهم ، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم ، ولذلك قال : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ). والخامس : أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار ، وقالوا : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) باجتناب ما نهينا عنه.
والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال ، بل يحمل النهي على كل فرد من أنواع الإفساد ، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة ، كانوا يكونون بين حالين : إحداهما : أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين ، والحالة الأخرى أن يكونوا مع عدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة ، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم : إن كنتم قد قنع منكم بالإقرار بالإيمان ، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض ، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد ، بل أثبتوا لأنفسهم أنهم مصلحون وأنهم ليسوا محلا للإفساد ، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح. كل ذلك بهت منهم وكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما كانوا قد قابلوا النهي عن الإفساد بدعوى الإصلاح الكاذبة أكذبهم الله بقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ، فأثبت لهم ضد ما ادعوه مقابلا لهم ذلك في جملة اسمية مؤكدة بأنواع من التأكيد منها : التصدير بأن وبالمجيء بهم ، وبالمجيء بالألف واللام التي تفيد الحصر عند بعضهم. وقال الجرجاني : دخلت الألف واللام في قوله المفسدون لما تقدم ذكر اللفظة في قوله لا تفسدوا ، فكأنه ضرب من العهد ، ولو جاء الخبر عنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر ، لكان (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) ، انتهى كلامه ، وهو حسن.
واستفتحت الجملة بألا منبهة على ما يجيء بعدها لتكون الأسماع مصغية لهذا الإخبار الذي جاء في حقهم ، ويحتمل هم أن يكون تأكيدا للضمير في أنهم وإن كان فصلا ، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبرا لأن ، وأن يكون مبتدأ ويكون