بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر ، استبدلوا بالهدى الضلال ، فتحققت المعاوضة ، وحصل البيع والشراء حقيقة ، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ ، وقالوا : لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف ، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة ، وقالوا : لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء ، مع قيام الدليل الواضح ، فتحققت المعاوضة. قالوا : وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب ، كما قال قتادة ، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، ومصدقين ببعث النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومستفتحين به ، ويدعون بحرمته ، ويهددون الكفار بخروجه ، فكانوا مؤمنين حقا. فلما بعث صلىاللهعليهوسلم وهاجر إلى المدينة ، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم ، فجحدوا نبوته وقالوا : ليس هذا المذكور عندنا ، وغيروا صفته ، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم ، فتحققت المعاوضة. قالوا : وإن كان أراد سائر الكفار ، كما قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، فالمعاوضة أيضا متحققة ، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا ، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة : الحسي والنظري والسمعي ، وهذه التي تفيد العلم القطعي ، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر. وقال ابن كيسان : خلقهم لطاعته ، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله ، لأنه تعالى لو برأهم لطاعته ، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئا لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء. وسيأتي الكلام على قوله تعالى : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ، وعلى ولذلك خلقهم إن شاء الله.
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي : الضلالة : الكفر ، والهدى : الإيمان ، وقيل الشك واليقين ، وقيل الجهل والعلم ، وقيل الفرقة والجماعة ، وقيل الدنيا والآخرة ، وقيل النار والجنة. وعطف : فما ربحت ، بالفاء ، يدل على تعقب نفي الربح للشراء ، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح. وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل ، كان في معنى الشرط ، ومثله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) (٢) ، وقع الجواب بالفاء في قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) (٣) ، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم ، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ ، فتدخل الفاء في خبره ، كما تدخل
__________________
(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٦.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٢.
(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٧٤.