إعادته هنا. وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعا من البديع يسميه أرباب البيان : بالطباق. وقد تقدّم شيء منه ، وهو أن تأتي بالشيء وضدّه ، ووقع هنا في قوله تعالى : (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ، فإنهما دليلان على الحقير والكبير ، وفي قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وفي قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ، وفي قوله : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ، وفي قوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). وجاء في هذه الثلاثة الأخيرة مناسبة الطباق ، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله ، فالضلال بعد الهداية لقوله : كل مولود يولد على الفطرة ، ولدخول أولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ ، والنقض بعد التوثقة ، والقطع بعد الوصل. فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق. وفي وصل الذين بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد ، وإشعار أيضا بالديمومة ، وهو أبلغ في الذم ، وبناء يوصل للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل ، لأنه يشتمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم.
وترتيب هذه الصلات في غاية من الحسن ، لأنه قد بدأ أولا بنقض العهد ، وهو أخص هذه الثلاث ، ثم ثنى بقطع ما أمر الله بوصله ، وهو أعم من نقض العهد وغيره ، ثم أتى ثالثا بالإفساد الذي هو أعم من القطع ، وكلها ثمرات الفسق ، وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة ، فيكون وصف الفسق لهم ثابتا ، وتكون النتائج عنه متجدّدة متكررة ، فيكون الذم لهم أبلغ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدّد فروعه ونتائجه ، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله : (أُولئِكَ) ، أي : أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد.
(هُمُ الْخاسِرُونَ) : وفسر الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم ، وبالهالكين ، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والإفساد بالإصلاح ، وعقابها بالثواب ، وقيل : الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل : خسروا نعيم الآخرة ، وقيل : خسروا حسناتهم التي عملوها ، أحبطوها بكفرهم. والآية في اليهود ، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين ، وهم يعملون في الظاهر عمل المخلصين. قال القفال : الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى عليه. (كَيْفَ) : قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال ، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ ، فخرج عن حقيقة الاستفهام. وقيل : صحبه الإنكار والتعجب ، أي أن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخرا فيثيب ويعاقب ، لا يليق أن يكفر به. والإنكار بالهمزة إنكار لذات