من التراب ، وخلق سائر المكلفين من أولاده ، إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، من النطف. قال : واختلفوا ، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجماد مجاز ، لأن الميت من يحله الموت ، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حيا في العادة ، والقول بأنه حقيقة في الجماد مروي عن قتادة ، انتهى كلامه. وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب ، لأن المخلوق من التراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتا قط ، فكيف يندرج في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً)؟ والذي نختاره أن كونهم أمواتا ، من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحما. والإماتة الثانية هي المعهودة ، والإحياء هو البعث بعد الموت. ويكون الإحياء الأول والموت الأول ، والإحياء الثاني حقيقة ، وأما كونهم أمواتا ، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة ، ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب ، لأنه على كل حال موجود ، فقرب اتصافه بالموت ، بخلاف من زعم أنه أريد به كونه معدوما وكونه في الصلب. أو حين كان آدم طينا ، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدم صرف ، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتا ، ألا ترى ما أطلق عليه في اللغة لفظ الموت مما لا تحله الحياة كيف يكون موجودا لا عدما صرفا؟ (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) (١) ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٢) ، (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) (٣) ، (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٤) ، وتقول العرب : أرض موات. وأما قول من ذهب إلى أن الموت الأول : هو الخمول ، والإحياء الأول : هو التنويه والذكر ، فمجاز بعيد هنا ، لأنه متى أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز القريب كان أولى.
وقد أمكن ذلك بما ذكرناه ، ثم أكثر تلك الأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله : فأحياكم ، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة ، وعلى ما اخترناه تكون الفاء دالة على معناها من التعقيب. ومن قال : إن الموت الأول : هو المعهود ، والإحياء الأول هو للمسألة ، فيكون فيه الماضي قد وضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه ، أي وتكونون أمواتا فيحييكم ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ). وقد استدل بهذه الآية قوم على نفي عذاب القبر ، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين ، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة.
__________________
(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٣.
(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٣٩.
(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٣٩.
(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.