ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف. فقال قوم : سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار. وقال قوم : يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد ، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (١) ، وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة ، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها ، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار ، ولم يسقط عنهم التكليف ، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم. اه كلامه.
(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) : مفعول على إسقاط حرف الجرّ ، أي بالغمام ، كما تقول : ظللت على فلان بالرداء ، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللا. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه ، بجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم : عدّلت زيدا ، أي جعلته عدلا ، فكذلك هذا معناه : جعلنا الغمام عليكم ظلة ، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل ، فيكون التضعيف أصله للتعدية ، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى ، فكان الأصل : وظللناكم ، أي أظللناكم بالغمام ، نحو ما ورد في الحديث : «سبعة يظلهم الله في ظله» ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهه مما يمكن تعديته بعلى ، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني فعل ، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا ، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام ، وليس كذلك ، بل المعنى ، والله أعلم ، ما ذكره المفسرون. وقد تقدّم تفسير الغمام ، وقيل : إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر ، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن ، وهو المشار إليه بقوله : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (٢) ، وليس بغمام حقيقة ، وإنما سمي غماما لكونه يشبه الغمام. وقيل : الذين ظلّل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل ، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلّته غمامة.
وحكي أن شخصا عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة ، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا : لعلك أحدثت ذنبا ، فقال : لا أعلم شيئا إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر ، فقالوا له : ذلك ذنبك ، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم ، فامتنّ الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة. والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس ، وسيأتي بيان ذلك في
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٧١.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢١٠.