يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية. قالوا : هذه الآية دليل على حرمان القاتل ميراث المقتول ، وإن كان ممن يرثه. وأقول : لا تدل هذه الآية على ذلك ، وإنما القصة ، إن صحت ، تدل على ذلك ، لأن في آخرها : فما ورث قاتل بعدها ممن قتله. وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنه لا ميراث له ، عمدا كان أو خطأ ، لا من ديته ، ولا من سائر ماله. وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو يوسف ، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا : إن كان صبيا أو مجنونا ، ورث. وقال عثمان الليثي : يرث قاتل الخطأ. وقال ابن وهب ، عن مالك : لا يرث قاتل العمد من ديته ، ولا من ماله. وإن قتله خطأ ، يرث من ماله دون ديته. ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري ، وهو قول الأوزاعي. وقال المزني ، عن الشافعي : إذا قتل الباغي العادل ، أو العادل الباغي ، لا يتوارثان لأنهما قاتلان. وقالوا : استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة ، على صحة القول بالقسامة ، بقول المقتول : دمي عند فلان ، أو فلان قتلني ، وقال الجمهور خلافه. وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء ، قالوا : في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه ، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز السلم في الحيوان. ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء ، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذه القصة. قال القشيري : أراد الله أن يحيي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله ، فأمر بقتل حيوان لهم ، فجعل سبب حياة مقتولهم بقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه ، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه. فمن ذبح نفسه بالمجاهدات حيي قلبه بأنوار المشاهدات ، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول.
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، قال الزمخشري ، معنى ثم قست : استبعاد القسوة بعد ما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ، ثم أنتم تمترون. انتهى. وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد ، ولذلك قيل عنه في قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١). وهذا الاستبعاد لا يستفاد من العطف بثم ، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعد ما تقدّم مما لا يقتضي وقوعها ، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر ، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابة إلى الله
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ١.