تعالى ، والتسليم لأقضيته ، فصدر منهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها ، بما شاهدت ، والتعنت والتكذيب ، حتى نقل أنهم بعد ما حيي القتيل ، وأخبر بمن قتله قالوا : كذب. والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل ، قاله ابن عباس ، وهم الذين قتلوه ، وأنكروا قتله. وقيل : قلوب بني إسرائيل جميعا قست بمعاصيهم وما ارتكبوه ، قاله أبو العالية وغيره. وكنى بالقسوة عن نبوّ القلب عن الاعتبار ، وأن المواعظ لا تجول فيها. وأتى بمن في قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشعارا بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق ، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة ، فيتدافع معنى ثم ، ومعنى من ، فلا بد من تجوّز في أحدهما. والتجوز في ثم أولى ، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة ، فينحرفون إثرها إلى المعصية عنادا وتكذيبا ، والإشارة بذلك قيل : إلى إحياء القتيل ، وقيل : إلى كلام القتيل ، وقيل : إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهم قردة وخنازير ، ورفع الجبل ، وانبجاس الماء ، وإحياء القتيل ، قاله الزجاج.
(فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) : يريد في القسوة. وهذه جملة ابتدائية حكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة ، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة ، ويعني أن قلوبهم صلبة ، لا تخلخلها الخوارق ، كما أن الحجر خلق صلبا. وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض ، بل خلق ذلك فيها خلقا أوليا ، كما أن صلابة الحجر كذلك. والكاف المفيدة معنى التشبيه : حرف وفاقا لسيبويه وجمهور النحويين ، خلافا لمن ادّعى أنها تكون اسما في الكلام ، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف ، التقدير : فهي كائنة كالحجارة ، خلافا لابن عصفور ، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء ، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس. وجمعت الحجارة ولم تفرد ، فيقال كالحجر ، فيكون أخصر ، إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع ، لأنه قوبل الجمع بالجمع ، لأن قلوبهم جمع ، فناسب مقابلته بالجمع ، ولأن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة. فلو قيل : كالحجر ، لأفهم ذلك عدم التفاوت ، إذ يتوهم فيه من حيث الإفراد ذلك.
(أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، أو : بمعنى الواو ، أو بمعنى أو للابهام ، أو للإباحة ، أو للشك ، أو للتخيير ، أو للتنويع ، أقوال : وذكر المفسرون مثلا لهذه المعاني ، والأحسن القول الأخير. وكأن قلوبهم على قسمين : قلوب كالحجارة قسوة ، وقلوب أشدّ قسوة من الحجارة ، فأجمل ذلك في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) ، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة ، وإلى أشدّ منها ،