التوراة المبدلة المغيرة ، ويقرأونها عليهم ويقولون لهم : هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. بأيديهم : تأكيد يرفع توهم المجاز ، لأن قولك : زيد يكتب ، ظاهره أنه يباشر الكتابة ، ويحتمل أن ينسب إليه على طريقة المجاز ، ويكون آمرا بذلك ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتب ، وإنما المعنى : أمر بالكتابة ، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي ، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (١). ونظير هذا التأكيد (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) ، و (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) ، وقوله :
نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله. وفي هذا التأكيد أيضا تقبيح لفعلهم ، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير ، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم ، واجترحوه بأيديهم. وقال ابن السرّاج : ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم ، ومن عند أنفسهم ، من غير أن ينزل عليهم. انتهى كلامه. ولا يدل على ما ذكر ، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق ، ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها ، التقدير : يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفا ، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم : (يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه ، فلذلك قدرنا هذه الحال.
(ثُمَّ يَقُولُونَ) : أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم ، ومعمول القول هذه الجملة التي هي : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا) ، علة في القول ، وهي لام كي ، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر ، فيتعلق بيقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار ، وبنو العنبر يفتحون لام كي ، قال مكي في إعراب القرآن له. (بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ، به : متعلق بقوله : ليشتروا ، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وهو المكتوب المحرّف. وتقدّم القول في الاشتراء في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٢). والثمن هنا : هو عرض الدنيا ، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم ، ووصف بالقلة لكونه فانيا ، أو حراما ، أو حقيرا ، أو لا يوازنه شيء ، لا ثمن ، ولا مثمن. وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا وكذبوا على الله ، وضموا إلى ذلك
__________________
(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٤٨.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٦.