قصة الطور ذكر توليهم عما أمروا به ، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختيارا ، حتى ألجئوا إلى القبول اضطرارا ، فدعواهم الإيمان بما أنزل إليهم غير مقبولة. ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره. والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أو تعظيمه ، كررته. وفي هذا التكرار أيضا من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم ، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.
(وَاسْمَعُوا) أي : اقبلوا ما سمعتم ، كقوله : سمع الله لمن حمده ، أو اسمعوا متدبرين لما سمعتم ، أو (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) (١). لأن فائدة السماع الطاعة ، قاله المفضل. والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب. قال الماتريدي : معنى اسمعوا : افهموا. وقيل : اعملوا ، ووجهه أن السمع يسمع به ، ثم يتخيل ، ثم يعقل ، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملا. ولما كان السماع مبتدأ ، والعمل غاية ، وما بينهما وسائط ، صح أن يراد بعض الوسائط ، وصح أن يراد به الغاية. (قالُوا) : هذا من الالتفات ، إذ لو جاء على الخطاب لقال : قلتم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) : ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة ، ونطقوا بذلك مبالغة في التعنت والعصيان. ويؤيده قول ابن عباس : كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (٢) ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا). وقيل : القول هنا مجاز ، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين ، ولكن لما لم يقبلوا شيئا مما أمروا به ، جعلوا كالناطقين بذلك. وقيل : يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله ، وإن لم يكن نطق. وقيل : المعنى سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا ، وهذا راجع لما قاله الزمخشري ، قال : قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك. فإن قلت : فكيف طابق قوله جوابهم؟ قلت : طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا ، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، انتهى كلامه. والقول الأوّل أحسن ، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره ، لا سيما إذا لم يقم دليل على خلافه. (وَأُشْرِبُوا) : عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفا على قالوا ، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة ، قلتم كذا وكذا وأشربتم ، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات ، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل ، أو الواو للحال ، أي وقد أشربوا والعامل قالوا ، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالا ، والقول الأول هو الظاهر. (فِي قُلُوبِهِمُ) : ذكر مكان الإشراب ،
__________________
(١) سورة التغابن : ٦٤ / ١٦.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٤٦.