وقال : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) (١)؟ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) (٢)؟ إلى غير ذلك من الآيات. ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبرا ، ولما كان خبرا توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها ، لأنه قال المتأول في هذا : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقال في أخرى : لا أحد أظلم ممن افترى ، وفي أخرى : لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها. فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، وكذلك باقيها. فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض. وقال غيره : التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليها بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم ، سالكا طريقتهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية ، أو الافترائية. وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى. وإنما هذا نفي للأظلمية ، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق. لو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضا ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية. وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى ، وممن ذكر. ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر. كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفى أن يكون أحد أفقه منهم. لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على الله الكذب ، أقلّ ظلما ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساويا في الأظلمية ، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية. فكلها صائرة إلى الكفر ، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فنقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر. ومعناه : أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره. ومن في قوله : ممن منع ، موصولة بمعنى الذي. وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. أن يذكر : يحتمل أن يكون مفعولا
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٧.
(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٥٧.