جميع المؤمنين ، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي ، لأنهما أقرب أحواله إلى الله ، وقدّم الركوع على السجود لتقدمه عليه في الزمان ، وجمعا جمع تكسير لمقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة ، فكان ذلك تنويعا في الفصاحة ، وخالف بين وزني تكسيرهما تنويعا في الفصاحة أيضا ، وكان آخرهما على فعول ، لا على فعل ، لأجل كونها فاصلة ، والفواصل قبلها وبعدها آخر ما قبله حرف مدّ ولين ، وعطفت تينك الصفتان لفرط التباين بينهما بأي تفسير فسرتهما مما سبق. ولم يعطف السجود على الركع ، لأن المقصود بهما المصلون. والركع والسجود ، وإن اختلفت هيآتهما فيقابلهما فعل واحد وهو الصلاة. فالمراد بالركع السجود : المصلون ، فناسب أن لا يعطف ، لئلا يتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حيالها ، وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة ، وليس كذلك. وفي قوله : (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) دلالة على جواز الصلاة في البيت فرضا ونفلا ، إذ لم يخصص.
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء الله تعالى. وناداه بلفظ الرب مضافا إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته. واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة. وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (١) ، أو إلى المكان الذي صار بلدا ، ولذلك نكره فقال : (بَلَداً آمِناً). وحين صار بلدا قال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي) (٢) ، وقال : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (٣) ، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين. وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، ويكون بلدا النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوما حارا ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلدا. ويحتمل وجها آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلدا ، بل دعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله : (هَذَا الْبَلَدَ) ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلدا. ووصف بلد بآمن ، إما
__________________
(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٧.
(٢) سورة ابراهيم : ١٤ / ٣٥.
(٣) سورة البلد : ٩٠ / ١.