ناشىء عن استدلال بالعقل ، فبطل تمسكهم بالآية. وإنما لم تتعرض الآية للاستدلال العقلي ، لأنها لم تجىء في معرض ذلك ، لأنه إنما سألهم عما يعبدونه من بعد موته ، فأحالوه على معبوده ومعبود آبائه ، وهو الله تعالى ، وكان ذلك أخصر في القول من شرح صفاته تعالى من الوحدانية والعلم والقدرة وغير ذلك من صفاته ، وأقرب إلى سكون نفس يعقوب ، فكأنهم قالوا : لسنا نجري إلا على طريقتك. وقد يقال : إن في قوله : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) إشارة إلى الاستدلال العقلي على وجود الصانع ، لأنه قد تقدّم في أول السورة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) ، فمرادهم هنا بقولهم : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ) الإله الذي دل عليه وجود آبائك ، وهذا إشارة إلى الاستدلال.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ، تلك : إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما. ومعنى خلت : ماتت وانقضت وصارت إلى الخلاء ، وهو الأرض الذي لا أنيس به. والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية. والجملة من قوله : قد خلت ، صفة لأمّة. (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) : أي تلك الأمّة مختصة بجزاء ما كسبت ، كما أنكم كذلك مختصون بجزاء ما كسبتم من خير وشرّ ، فلا ينفع أحدا كسب غيره. وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد ، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية ، أي لها كسبها ، وكذلك ما في قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ). ويجوز أن تكون الجملة من قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) استئنافا ، ويجوز أن تكون جملة خالية من الضمير في خلت ، أي انقضت مستقرا ثابتا ، لها ما كسبت. والأظهر الأول ، لعطف قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) على قوله : (لَها ما كَسَبَتْ). ولا يصح أن يكون (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) عطفا على جملة الحال قبلها ، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال ، يوجب اتحاد الزمان. افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا أن أحدا لا ينفع أحدا ، متقدّما كان أو متأخرا. وروي : يا بني هاشم! لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم! با فاطمة ، لا أغني عنك من الله شيئا! قال ابن عطية : وفي هذه الآية ردّ على الجبرية القائلين : لا اكتساب للعبد. انتهى.
وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الدين ، وهي من المسائل المعضلة ، ومذاهب أهل
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١.